[حكم الله عز وجل بين عباده يوم القيامة]
أما الحكم الأخروي: فما منا من أحد إلا يعلم أن الله سيحكم بين العباد بعدما يكلم كل إنسان منا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فيقول: هلكت هلكت، فيقول الله تعالى: عبدي! تذكر ذنب كذا؟ فيقول: نعم.
فيقول: عبدي! تذكر ذنب كذا؟ فيقول: اللهم نعم.
عبدي! تذكر ذنب كذا؟ فيقول: اللهم نعم.
ثم يقول: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم).
ثم لا يمكن لأحد كتب الله له الجنة أن يمر على الصراط إلى بعد التنظيف؛ لأن الله أبى أن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، فيقفون على الصراط فيبدأ التحاكم إلى الله جل في علاه، كما في مسند أحمد بسند صحيح من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفره أبداً، وديوان لا يتركه أبداً، وديوان هو في مشيئة الله جل في علاه)، أما الديوان الذي في مشيئة الله فهو ديوان الذنوب، وقد قال فيه الله جل في علاه: (عبدي قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)، وأما الديوان الثاني الذي لا يغفره الله أبداً فديوان الشرك، فالذين يشركون بالله فإنهم لا يغفر لهم أبداً، بل يخلدون في نار جهنم، وأما الديوان الثالث فديوان لا يتركه أبداً -وهو محل الشاهد في صفة التحاكم- الفصل بين العباد، فإن الله لا يترك عبداً انتهك حرمة أخيه، أو عبداً سرق أو زنى أو اغتاب، فوصل ضرره لأخيه إلا وسيقتص منه يوم القيامة، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: (تعلم لم يتناطحان؟ قال: الله ورسوله أعلم.
فقال له: الله يعلم وسيقتص منهما)، والنبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث يبين أن الشاة الجلحاء ستقتص من الشاة القرناء يوم القيامة، فالله يجعل هذا القصاص بين الحيوانات، فما بالكم بما بين البشر؟ وأجلى من ذلك ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات)، وأول القصاص يوم القيامة ما يكون في الدماء، فإن الله يقضي بين العباد في الدماء، ثم بعد ذلك في المظالم، سواء أكانت السب أو الغيبة أو كانت الزنا، أو الطعن في العرض، أو غير ذلك من المظالم، فإن الله حكم عدل وسيفصل بين العباد.
ولذلك ترى الصحابي الجليل أبا هريرة عندما روى الروايات عن رسول الله، قالوا: أكثر علينا أبو هريرة، فقال: قالوا: أكثر علينا أبو هريرة والله الموعد، يعني: موعدنا عند الله أي: أن الله جل وعلا سيفصل في هذا، وينظر هل أكثرت على رسول الله كذباً أم كان هذا بالحق وبالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند الله تجتمع الخصوم.
هذا الحكم الثاني وهو حكم الآخرة.
فإن علمت ذلك فلا بد أن تتحرى ترك كل غيبة وكل نميمة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة نمام)، فكل انتهاك لعرض أخ من إخوانك لا بد أن ترد هذا الانتهاك، ولست معاباً أن تخطئ؛ لأن كل البشر يخطئون، لكن العيب كل العيب أن تصر على خطئك، وتتكبر ولا ترجع عن خطئك، ولذلك بين الله جل في علاه أن الذين لا يصرون على الأخطاء هم المغفور لهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:١٣٥]، فليس المهم ألا يقع الإنسان في الخطيئة فإننا كلنا نخطئ في حق الله، لكن أفضل الناس وخيرهم التواب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا جميعاً من التوابين، وعلينا أن نستحضر دائماً في قلوبنا حكم الله بيننا، فإن كانت مظلمة بيننا وبين إخواننا فعلينا أن نردها في هذه الدنيا؛ لأن الله الموعد، وعنده تجتمع الخصوم.