إذا قلت ذلك فاعلم أخي الكريم -حتى تيأس من هذه الدنيا- أن الغنى والفقر بيد الله جل في علاه؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام دائماً يقول:(ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السموات والأرض لا ينفع ذا الجد منك الجد)، أي: لا ينفع الغنى منك الغنى، فإن الغنى كله بيد الله جل في علاه، فإن أردت أن تتعبد بهذه الصفة لله جل في علاه فاعلم أن ربك غني عنك وعن أمثالك وعن الدنيا بأسرها، إن مدحت ربك بسجودك وتذللك وتضرعك فلا تمن على الله بذلك؛ لأنه غني عن عبادتك وتضرعك ومدحك وثنائك عليه، ألم تسمع قول الله تعالى في الحديث القدسي:(يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك مما عندي شيئاً)؟ وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح:(قال الله جل في علاه: يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، فالغنى المطلق لله جل في علاه.
إن علمت ذلك -أخي الكريم- فاستغن بربك، ولا تسألن أحداً إلا إذا أباح لك الله السؤال في المسألة التي تحل لك؛ لأنك إذا استغنيت بربك فالدنيا بأسرها ستكون معك، ومن كان الله معه فمن عليه؟! ومن انشغل بالله كفاه الله كل الهموم، كما في بعض الآثار:(خلقتك للعبادة فلا تلعب، وقسمت لك الرزق فلا تتعب).
قال ابن القيم: خلق الكون كله لك، وخلقك أنت له؛ فإن استغنيت به جعل الكون كله في يديك.
أنت موظف عند ربك جل في علاه، فانشغل بهذه الوظيفة يكفيك الله كل الهموم.
ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية يبين غناه بربه جل في علاه، ويدحض الشبه التي تأتيه فيقول: ماذا يريد أعدائي بي؟ انظروا إلى الغنى بالله جل في علاه، ما سأل أميراً ولا وزيراً ولا حاكماً ولا غير ذلك، قال: ما يفعل أعدائي بي؟ ما يظن أعدائي بي؟ ما يريدون مني، أنا جنتي في قلبي، ولذلك قلنا بأن الرزق رزقان: رزق قلوب، ورزق أبدان، وأفضل ما يكون من رزق القلوب هو غنى القلب، وأن تستغني بربك في قلبك، قال: إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن سجنوني فسجني خلوة بربي، وإن نفوني فنفيي سياحة.