للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التعبد لله بصفة الآخرية]

إن التعبد لله بصفة الآخرية يكون بالتدبر في زوال كل شيء وأن كل شيء له آخر، والله ليس له آخر، وأن آخرة هذا الإنسان وهذا الكون كله بيد الآخر سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].

فعلى الإنسان أن يعلم أن آخريته بيد الله جلا في علاه، وأن الأعمال بالخواتيم، وهذه الخواتيم بيد الآخر سبحانه جل في علاه، فإذا علم الإنسان ذلك تضرع إلى ربه أن يختم له في آخر حياته بالتوحيد والهدى والتقوى والإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً عسله، قالوا: وما علسه يا رسول الله؟! قال: إذا أحب الله عبداً وفقه لعمل الخير، ثم قبضه على هذا العمل)، فكانت خاتمته بالأعمال الصالحة.

وكما أن آخرة الإنسان في هذه الدنيا بالله جلا في علاه، فإن آخرته يوم القيامة بيد الآخر سبحانه، فليدع ربه أن يختم له بخاتمة حسنة بقول: لا إله إلا الله، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).

إن الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يتدبرون أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ويتعبدون لله بها، فهذا عمر بن الخطاب كان يحفظ القرآن عشر آيات عشر آيات، فحفظ البقرة في ست؛ فيتعلم القراءة، ثم يحفظ العشر الآيات، ثم يعمل بها تعبداً لله جلا في علاه.

وكان ابن عمر يقول: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فجاء نور القرآن على نور الإيمان، فتم نور الله في قلب المؤمن.

وهذا أبو زرعة رحمه الله جبل من جبال أهل العلم، وكان حافظاً ثقة ثبتاً، وكان يعرض عليه صحيح مسلم فيقرأ فيه ويقول: هؤلاء القوم ما أرادوا إلا الشهرة؛ لأنه تكلم عن بعض الروايات في صحيح مسلم، منها: روايات أبو الزبير عن جابر، وكان أبو زرعة مجتهداً في رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينتقي من الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيتعبد لله بالآخرية، فكافأه الله عند احتضاره بخاتمة حسنة، فعندما كان على فراش الموت اجتمع عنده المحدثون يذكرون حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أحدهم: حدثني فلان عن فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا وكذا، ويذكر أحاديث، فقال له أبو زرعة: هذا الحديث عندي، وهو أشبه بحديث فلان، فتكلم في آخر لحظات حياته وقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ثم مات، فلما اعتقد اعتقاداً جازماً بأن آخرته لا تكون إلا لله تعبداً لله، كانت آخرته أن رضي الله عنه ورطب لسانه بلا إله إلا الله، ثم مات عليها.

وهذا الإمام الفذ مسلم بن الحجاج ثاني علماء الأمة، وكتابه ثاني أصح الكتب بعد كتاب الله جلا في علاه، وبعد كتاب البخاري، عندما علم أن الله هو الآخر، وأن آخرته بيد الله، ابتدءها أولاً بالإحسان، فختمها الله له بالإحسان، قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠]، وهيئ له أسباباً للآخرية الصالحة؛ وروي أنه جلس في مجلس تحديث ومذاكرة مع بعض العلماء فذكروا له حديثاً لم يعرفه، فقام طوال الليل يبحث عن الحديث، وينظر في كل المصنفات، وكان يأخذ تمرةٍ ويقرأ حديثاً وهكذا، حتى ظفر بالحديث فأخذ التمرة، وحمد الله وهو ينظر إلى الحديث ويقرؤه، ثم مات على ذلك وهو يقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن المعاصرين: الشيخ كشك رحمة الله عليه، فقد كان دائماً ينافح عن دين الله، ويدل الناس على الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولما كانت آخريته بيد الله ختم الله له بخاتمة حسنة فمات وهو ساجد؛ لأنه دعا الله ألا يقبضه إلا ساجداً.

إن آخرة كل إنسان وموته بيد المليك المقتدر، فإذا تبعد لربه بأن الآخرية بيده، واعتقد ذلك اعتقاداً جازماً، والتجأ قلبه إلى صاحب الآخرية، فإنه لا يمكن أن تكون آخرته إلى الشيطان؛ لأن الشيطان يقعد عند رأس المرء عند موته وآخرته فيقول له: إن أباك مات على النصرانية، إن أباك مات على اليهودية، إن أباك مات على المجوسية، ذلك هو الدين الحق، بل ويمثل له أباه وأمه، وهذا الذي حدث مع صناديد أهل العلم، فقد تمثل للإمام أحمد، وقال له: يا أحمد! لقد ظفرت بك، وسوف آخذ منك ما أريد، ولا أحد يستطيع أن ينقذك مني، والإمام أحمد يقول: لا، وابنه يقول له: يا أبتي! قل: لا إله إلا الله، وهو يقول للشيطان: لا، فدهش الولد مما يقول أبوه، فلما أفاق الإمام أحمد قال له: يا أبتي! أقول لك: قل: لا إله إلا الله، وتقول: لا، فقال له: تمثل لي الشيطان، فقال لي: الآن أظفر منك يا أحمد، وأنا أقول: لا لا، وهذا يدل على قوة اعتقاده بآخرية الله، فوفقه الله أن يموت على: لا إله إلا الله، نحسبه كذلك، ونسأل الله له الدرجات العلى.

نسأل الله جل في علاه أن يوفقنا وإياكم إلى التعبد له بصفاته العلية الكاملة، بأن نعرف كل صفة، وكيف نتعبد بها له سبحانه.

<<  <  ج: ص:  >  >>