لابد أن العبد يستحضر كيف عبد السلف ربهم بهذه الصفة، ونذكر نماذج لأنبياء وصالحين، نعرف من خلالها كيف عبدوا ربهم بصفة الصمدية.
النموذج الأول: نوح عليه السلام الذي اعتقد في ربه هذا الاعتقاد الصحيح، بأن الله هو الصمد، الذي يصمد إليه العباد في كل الحوائج، وفي كل النوازل، فعندما كذبه قومه، قام فنادى ربه، فاستجاب الله دعاءه، وتابع له في الخيرات بأن أنجاه، وأغرق الباقين.
النموذج الثاني: موسى عليه الصلاة والسلام، عندما تعبد لله بهذه الصفة، قال:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:٢٤]، وهو يعلم بأن الله هو الصمد الذي تقصده الخلائق في حوائجها؛ فإن العبد لا يملك للعبد نفعاً ولا ضراً، وكل نبي يقول: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، وكذلك كل مؤمن معتقد في الله حق الاعتقاد ويعلم أن الخير كله بيد الله، وليس بيد أحد من عباده، والشر والضر هو من عند الله جل في علاه، ولا يملك أحد أن يضر أحداً، بل إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم صريحٌ جداً في هذه المسألة، حيث قال:(ولو أن الأمة اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولن يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك).
فالنفع والضر بيد الله جل في علاه، ولذلك يقول الله تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنعام:١٧].
وكان نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يرفع بصره إلى السماء؛ لأنه يعلم أن النفع بيد الله، وأنه لا بد أن يصمد لله، فيقصده في حوائجه، قال الله على لسانه:{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:٢٤] فجاء الفرج والتأييد من الصمد الذي يفرج على عباده عندما يلجئون إليه، وهو الذي يكشف الضر، فقال تعالى:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}[القصص:٢٥]، وهذا الفرج والتأييد كله من الصمد سبحانه وتعالى، فكذلك هو فضل الله على العباد عندما يعتقدون الاعتقاد الصحيح في ربهم جل في علاه، وعند ذلك فتح الله عليه الأبواب كلها، فأعفه وحفظه بعدما كان خائفاً، ثم بعد ذلك بعثه نبياً مرسلاً.
ثم يتأمل المسلم في أدب وحياء هذه المرأة التي جاءته، وهي تقول لأبيها:{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:٢٦]، فعلم أبوها أنها تريده زوجاً لها، فقال لموسى عليه الصلاة والسلام:{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}[القصص:٢٧]؛ وهذا من التعبد الصحيح بعد الاعتقاد السديد في الله جل في علاه.
النموذج الثالث: محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي علمنا هذه الأسماء، وهو الذي علمنا هذه الصفات، فكان يتعبد الله بها، ويتأثر بها، ففي غزوة بدر عندما خرج صلى الله عليه وسلم للعير، ولم يكن خروجه للغزوة، ولم يكن الجيش قد تجهز للغزوة، فعندما التقى الصفان، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكفر الذين جاءوا بطراً ورياءً، وجاءوا حتى تعلو كلمة الكفر دون كلمة الله جل في علاه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعتقد بأن الصمد هو الله يتضرع إلى ربه حتى سقط رداءه عنه، وهو يقول:(اللهم أنجز لي ما وعدت، اللهم وعدك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت) فيقول أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: أبشر يا رسول الله! إن الله منجز لك ما وعدك، وعند ذلك جاءته البشرى من الله عز وجل قبل أن ينزل يديه، فنظر صلى الله عليه وسلم، وإذا بجبريل عليه السلام ومعه الملائكة تنزل لإغاثة المسلمين، حتى يكتب الله النصر لهذه الأمة، وهذا هو أثر تعبد العباد بهذه الصفة الجليلة (صفة الصمدية) فأنت تعلم أن حاجتك كلها لا يمكن أن تنزلها بعبد؛ لأنه لن يضرك ولن ينفعك، بل سيزيدك هماً على همك، والذي سيفرج همك هو الصمد سبحانه جل في علاه.
وتأمل وتدبر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين قال:(قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد وسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي من شيء)، فعلى المسلم أن يتدبر هذه الصفة تدبراً حسناً ويتعبد بها الله عز وجل، وينزل حاجته بالله، ولا ينزل حاجته بالبشر، فإنه إن أنزل حاجته بالبشر ذل وأذل نفسه، ولو أنزل حاجته بالصمد فإن الله يفرج همه، وهذا غير النصر الذي يراه في الآخرة بإذن الله تعالى.