للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أنواع سمع الله عز وجل]

وسمع الله أنواع: سمع تهديد وسمع تسديد ونصرة وتأييد, وسمع قرب وإجابة ورفع بلوى وكشف كربة.

أما سمع التهديد: فكما بين الله جل في علاه لهؤلاء الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ثم بعد ذلك يدبرون الأمر بالليل، فأخبرهم أنه يسمع سرهم ونجواهم، وهذا السماع وهذه الآية تدل على أن الله يهددهم، فكأنه يقول لهم: أسمع سركم وأسمع نجواكم، فإن سمعت ما تقولون أو ما تسرون في قلوبكم أو في أماكنكم فإن قوتي ستصل إليكم؛ لأني سمعت ما تدبرون وإني قاصم لظهوركم.

سبحانه جل في علاه.

فهذا سمع تهديد، يهدد به الله جل في علاه القلوب المريضة، ولترجف وترجع.

وسمع تأييد ونصرة وتسديد.

اللهم اسمعنا بنصرك يا رب العالمين، وبتسديدك وتأييدك.

وهذا السمع هو الذي قاله الله جل في علاه لموسى عندما قال: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:٤٥]، وذلك لما ذهب إلى فرعون الطاغية الأكبر الأرعن، الذي تجرأ وقال: إني أنا ربكم الأعلى.

فخاف موسى وخاف على هارون, {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:٤٥]، فبين الله أنه يسمعهم، وهذا السمع يستلزم التأييد والنصرة، بل ويستلزم أن الله جل وعلا يعصمه من كل شر.

{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، أي: أسمع ما يحاك بكم، وما يدار بينكم، وكل ما يدور معكم، وإني منجيكم من هؤلاء الكفرة الظلمة, {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦].

فسمعه سمع قرب, وإجابة وكشف الكربة, ورفع البلوى.

فيسمع لعبده في السحر في الليل وهو متخشع متذلل متضرع لربه جل في علاه، فيسمع دعواه ويستجيب له.

ولذلك ينزل ربنا نزولاً يليق بجلاله وكماله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيسمع دعاء عبده, كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة:١٨٦]، وخاصة إذا قدمت بين دعاءك دعاء الثناء؛ لأن الدعاء: دعاء عبادة ودعاء مسألة, فإذا قدمت دعاء الثناء والعبادة فإن الله يقبل المسألة.

ومثال ذلك: إذا كنت في الصلاة فقرأت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢]، فقد أثنيت على الله بالربوبية, {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:٣ - ٥]، وهذا ثناء على الله بأنه المتفرد وحده بالعبادة، فقد أثنيت على ربك أولاً بدعاء الثناء وهو دعاء العبادة، بل هو كل العبادة.

وقد احتج له شيخ الإسلام بحديث فيه ضعف، ولكن أستأنس به ومعناه صحيح، وهو حديث: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين) فإذا أديت دعاء العبادة، ثم ركعت فعظمت الرب قائلاً: سبحان ربي العظيم، فقد قدمت ثناء العبادة أو دعاء العبادة، فدعاء المسألة لك مستجاب، فقل: سمع الله لمن حمده, يعني: أن الله سمع ثناءك وحمدك وشكرك، وسيجازيك عن ذلك خيراً, فهذا السماع: سماع قرب واستجابة للدعاء.

وقد سمع الله قلب زكريا قبل صوته عندما خفق قلبه على الولد، وقد بلغ من الكبر عتياً، وامرأته عاقر.

ولما دخل على مريم رضي الله عنها وأرضاها ورأى عندها فاكهة الصيف في الشتاء والعكس بالعكس, نادى ربه، وهو يعلم بأن الله سميع قريب مجيب سيسمع دعاءه فقال: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:٣٨].

وهذا هو سمع الإجابة, فكانت المكافئة: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:٧].

ولو تدبر أحدنا ذلك وعلمه، واجتهد حتى يتعلم هذه الصفات، وكيف يتعبد بها لربه جل في علاه؟ ومن السمع القريب: سمع الله جل في علاه في كشف الكربة ورفع البلوى, كما في قصة المرأة التي جاءت تشتكي زوجها، وأنه بعدما كبر سنه، وبعد العشرة الطويلة, قال لها: أنت علي كظهر أمي.

وكان هذا في الجاهلية يعد طلاقاً، فكأنه بت طلاقها.

فذهبت تشتكي ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يفعل بها ذلك؟ وهي حجرها له وطاء، وهي معه في هذا العمر المديد.

فأنزل الله جل في علاه كاشفاً عنها الكربة ويقول: لا ليس بطلاق، إنما هذا منكر من القول وزور، فقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:١] فسمع شكوى المرأة، وكشف كربتها، ولم يجعل هذا طلاقاً بائناً أبداً, بل جعله منكراً من القول، ثم عاقب هذا القائل بأنه لا بد أن يكفر عن هذا القول الذي هو منكر وزور, فكشف الكربة، ورفع البلوى.

وهذه الصفة قد تعبد بها يونس عليه السلام، عندما كان في ظلماتٍ ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧]، وفي بعض هذه الآثار وإن كانت إسرائيليات لا تصدق ولا تكذب، أن الملائكة كانوا يقولون: سمعنا قولاً، أو سمعنا كلاماً أو صوتاً من مكان بعيد، ولكنه عند الله قريب ولذلك سمع الله له, فجاد عليه جوداً لم يجده على نبي مثله.

<<  <  ج: ص:  >  >>