إن العبد الآن المؤمن الذي اعتقد الاعتقاد الجازم بربوبية الله وألوهيته يعلم أن رزقه بيد الله جل في علاه، فلا يتوسل إلا بالله، علم أن حياته وقوت يومه ونهاره بيد الله جل في علاه، فلا يتذلل إلا لله، ولا يميل إلا لله جل في علاه، مستحضراً بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين:(لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
فهو يعتقد أن الله جل في علاه إن كانت خزائن السماوات والأرض في يده، وإن كان لا يمنع عبداً من خيره فإنه لن يتذلل إلا له سبحانه، مستحضراً قول الله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}[الحجر:٢١]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي:(لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي من شيء)، فلما اعتقد هذا الاعتقاد الصحيح، وعلم أن رزقه بيد الله لم ينشغل بالرزق أبداً، وإنما انشغل بالله، كما قال ابن القيم رحمه الله: إن الله خلق الكون كله من سماء، وأرض، وأنهار، وجبال، وأشجار، وثمر، وطعام، وأسماك، وكل ذلك خلقه لك، وخلقك أنت لمهمة عظيمة جسيمة، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، فانشغل بما خلقت أنت له، ولا تنشغل بما خلق لك، فإن علمت أن رزقك بيد الله جل في علاه فلن تتوكل إلا على الله، والذي يعينك على ذلك هو استحضارك توكل السلف، كـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه عندما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة للإنفاق فجاء أبو بكر بكل ما عنده، وهذا قمة التوكل على الله، وقمة الاعتقاد في ربوبية الله جل وعلا، فعندما امتلأ قلبه بالإيمان، وعلم يقيناً أن الرزق بيد الله أعطى كل ماله لله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)؛ لأنه يعلم أن الله جل وعلا سيخلف عليه خلفاً حسناً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:(إن الله بعث ملكاً يقول كل ليلة، أو كل صباح ومساء: اللهم أعط كل منفق خلفاً، وأعط كل ممسك تلفاً)، فاعتقد هذا الاعتقاد وعلم أن الرزق بيد الله جل في علاه، وتوكل توكلاً تاماً، وأيقن أن الله هو الرب المدبر الرازق الخالق سبحانه، فأنفق ماله كله في سبيل الله.
وهذا خالد بن الوليد توكل على الله، واعتقد الاعتقاد الجازم بالله، وبأن الله جل في علاه هو القوي المتين، وهو الرب الخالق المدبر، فبعث إلى ملك الفرس يقول له: لآتينك بجنود يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، وفي رواية: آتيك بجنود يحبون الموت كما تحبون أنتم الخمر، فنصره الله على عدوه بالرعب؛ وذلك لشدة توكله على ربه عز وجل، بل أروع من ذلك: أنه عندما دخل على ملك الفرس ودعاه إلى الإسلام فأبى، قال: إن شربت هذا السم ولم يحدث لي شيء، أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: اللهم نعم، فتوكل خالد على ربه، وفوض أمره إلى تدبير خالقه، واستحضر ربوبية الله، وأنه هو الذي يمتلك هذا الكون، وهو الخالق الرازق المدبر، فأخذ السم وقال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم وشربه فلم يحدث له شيء، فآمن الرجل؛ لتوكل هذا الصحابي الجليل على الله عز وجل.
وهكذا فقد ضرب الصحابة والتابعون أروع الأمثلة في التوكل على الله في الرزق، فهذا الحسن البصري بعد أن رزقه الله رزقاً واسعاً كان يأتي الأسواق فيبيع من التمر ما يسد به حاجة يومه، فيقولون له: فتح الله عليك فاستزد فيقول: لا والله، علمت أن رزقي بيد ربي ولن يذهب لغيري.