للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تعبد العلماء لربهم بصفة العلو]

انظروا إلى ابن حزم رحمه الله، فهو أروع الأمثلة التي ضربت من العلماء، فقد بين لنا الهمة العالية كيف تصنع بصاحبها، دائماً كانوا يقولون: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، يعني: الذي يتعلم في الكبر تعليمه لا ينفع، لكنه كسر كل هذه القواعد: دخل المسجد بعد العصر، فأراد أن يصلي فقام له رجل فقال: يا جاهل! تصلي بعد العصر، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر، فاستحيا ابن حزم وجلس فلم يصل، فجاء في الجمعة التي بعدها فصادف أنه دخل بعد العصر المسجد فجلس ولم يصل؛ لأن الرجل قد علمه بأن النبي نهى عن ذلك، فلما أراد أن يجلس قال له طالب علم: أيها الجاهل! تدخل المسجد وتجلس ولا تصلي؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)؟ فقام حزيناً بعدما صلى، فذهب وقال: والله لا أتركن العلم بحال.

انظروا إلى الهمة العالية، وكيف يتعبد لله بصفة العلو، فعكف على الكتب ثلاث سنوات فقام يطيح بالرءوس، ويشتد على الشافعي وأبي حنيفة والترمذي ويقول: ما سمعت بهذا الرجل، وما ترك أحداً إلا وبرى قلمه عليه، والعلماء يقولون: ابن حزم فحل من فحول أهل العلم لولا لسانه؛ لأن لسانه كان سيفاً بتاراً، فـ ابن حزم قال فيه العز بن عبد السلام: والله ما أبحت لنفسي أن أفتي حتى اقتنيت المغني لـ ابن قدامة، والمحلى لـ ابن حزم، ومن قرأ في المحلى علم غزارة علم الرجل حديثاً وفقهاً وأصولاً ولغة، فهو بحر في كل شيء لا ساحل له، ولولا قلمه لنال القبول العام عند العلماء، لكن انظر الهمة العالية التي جعلته في ثلاث سنوات يناطح الجبال، بل قام يناطح الجوزاء نفسها.

مسدد بن مسرهد كان رجلاً محدثاً بارعاً ثقة ثبتاً، دار على محدثي الكوفة والبصرة وذهب إلى العراق فما ترك محدثاً إلا واستمع منه، يعاني كل ذلك ليسمع من ابن حنبل، ثم هو في كل طريق يسأل عن الإمام أحمد بن حنبل فدخل على يحيى بن معين فقال: أسألك، قال: سل، قال: أسألك عن فلان؟ قال: ثقة، قال: أسألك عن فلان؟ قال: ضعيف، قال: أسألك عن فلان؟ قال: ثقة، قال: أسألك عن أحمد بن حنبل توثقه؟ فتعجب يحيى بن معين وقال: وأحمد بن حنبل يسأل عنه؟ أحمد بن حنبل إمام الدنيا بأسرها، أحمد لا يسأل عنه، ويذهب مسدد يسمع الحديث من أحمد بن حنبل وكان ثقة ثبتاً، بل أحمد رئيسه وشيخه وسيده، فظهر لنا علو همته في الطلب لما ذهب من بغداد ماشياً يريد صنعاء حتى يسمع الحديث من عبد الرزاق، وكان يستأجر نفسه، ويذهب يحمل عن الناس المتاع حتى يأخذ الأجرة فيطعم ويشرب حتى يذهب إلى عبد الرزاق ويسمع منه.

البخاري من بخارى ما ترك بلدة فيها محدث إلا وذهب إليها، فذهب إلى أحمد وجلس إليه وأخذ منه الحديث، ثم ترك بغداد، وأراد أن يرحل إلى مصر، فقال له أحمد: أين تذهب؟ أتتركنا وتترك الحديث؟ لكن البخاري قد أخذ منه ما يريد وذهب باحثاً عن علو الإسناد، فما ترك بلدة فيها محدث إلا وذهب إليها.

أبو داود جاء من سجستان في خراسان وذهب إلى الإمام أحمد، وله كتاب مشهور جداً يربطه بالإمام أحمد اسمه: سؤالات أبي داود، كان يسأل الإمام دائماً ويكتب عنه، فجمع الله بينهم فأخذ منه، ثم ذهب يدور على البلاد حتى يكتب الحديث.

انظروا إلى الهمة العالية من هؤلاء الأفذاذ أساطين أهل العلم، تأثروا بصفة العلو لله جل في علاه، وأصبحت الهمة كالجبال عالية لا ترضى بالدون، كما قامت هند وسط الناس وأخذت بـ معاوية وقالت: إن ابني هذا سيد وسيعانق الجوزاء، وصدقت حينما قالت ذلك؛ فإن معاوية رضي الله عنه وأرضاه صاحب همة عالية لا يرضى بالدون؛ ولذلك أصبح أميراً للمؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، فالصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم كانوا يتعبدون لله جل في علاه بهذه الصفة العظيمة الجليلة، وأيضاً من التابعين وتابعي التابعين.

نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا من أصحاب الهمم العالية.

لكن أنا أشتكي إلى ربي من نفسي ثم الله أعلم بإخوتي؛ لأني أعصي الله، والمعصية شوك في طريق طالب العلم، وجبل هدام على طالب العلم، فالله جل في علاه يغفر لنا زلاتنا، ويسير بنا على هذا الطريق الذي هو أشرف وأنبل الطرق، ويجعل همتنا همة عالية حتى ننظر في وجهه الكريم ونحن في الفردوس الأعلى لا ننزل عنها درجة أبداً، وإن كانت الأعمال لا تصل بنا، لكن كفانا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)، ونحن جميعاً بفضل الله نحب الله، ونحب رسوله، ونحب أبا بكر وعمر جمع الله بيننا وبينهم في الفردوس الأعلى.

<<  <  ج: ص:  >  >>