للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَغَيرهم. وَعَاد إِلَى بَلَده مالقة، وَقد صَار سباق الحلبات معرفَة بالأصول، وَالْفُرُوع، والعربية، واللغة وَالتَّفْسِير، والقراءات، مبرزاً فِي علم الحَدِيث تأريخاً، وإسناداً، ونسخاً، وتصحيحاً، وضبطاً، حَافِظًا للألقاب والأسماء والكنى؛ فتصدر فِي فنون الْعلم. وَكَانَ كثير النَّصِيحَة، حَرِيصًا على الإفادة؛ فنفع وأدب، وَخرج وهذب، حَتَّى صَار أَصْحَابه على هَيْئَة متميزة من لِبَاس واقتصاد، وجد واجتهاد. وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُول لفتيان الطّلبَة مَا قَالَه الْجُنَيْد بن مُحَمَّد، وَهُوَ: يَا معشر الشَّبَاب {جدوا قبل أَن تبلغوا مبلغي} فتضعفوا وتقصروا كَمَا قصرت! وَكَانَ الْجُنَيْد وَقت الشاخة لَا يلْحقهُ الشَّبَاب فِي الْعِبَادَة. وَمن تِلْكَ النِّسْبَة أَيْضا كَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله بن بكر؛ فَإِنَّهُ لم يكن فِي الْغَالِب يَأْكُل إِلَّا عِنْد حَاجَة، وَلَا ينَام إِلَّا عَن غلبته، وَلَا يتَكَلَّم بِغَيْر الْعلم إِلَّا عَن ضَرُورَة. وَبَقِي كَذَلِك زَمَانا، يدرس بِالْمَسْجِدِ الْقَرِيب من منزله سكناهُ احتساباً. ثمَّ تقدم ببلاده للوزارة، نَاظرا فِي أُمُور العقد والحل، ومصالح الكافة. ثمَّ ولي الْقَضَاء بِهِ؛ فأظهر من الجزالة والشدة مَا مَلأ بِهِ وجدا صُدُور الحسدة، ونسبوا إِلَيْهِ أموراً حملت على إِخْرَاجه من مالقة، وإمكانه بغرناطة؛ فَبَقيَ بهَا يَسِيرا، وَتقدم مِنْهَا بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع خَطِيبًا. ثمَّ ولي قَضَاء الْجَمَاعَة؛ فَقَامَ بالوظائف، وصدع بِالْحَقِّ، وبهرج الْعُدُول؛ فزيف مِنْهُم مَا ينيف على الثَّلَاثِينَ عددا، استهدف بذلك إِلَى محادة ومناسبة ومعادلة خَاضَ ثبجها وصادم تيارها غير مبال بقيل أَو قَالَ؛ فَأصْبح فِي عمله، مَعَ كتبة الوثائق بغرناطة، أشبه الْقُضَاة بِيَحْيَى بن معمر فِي طلبه قرطبة، إِذْ بلغ من مناقشته أَن سجل فِي يَوْم وَاحِد بالسخطة على تِسْعَة عشر رجلا مِنْهُم وَجَرت لِابْنِ بكر فِي هَذَا الْبَاب حكايات يطول ذكرهَا، إِلَى أَن استمرت الْحَال على مَا أَرَادَهُ. وعزم عَلَيْهِ أميره فِي إِلْحَاق بعض من أسخطه بِالْعَدَالَةِ؛ فَلم يجد فِي قناته مغمزاً؛ فَسلم لَهُ فِي نظره. وَلم يزل مَعَ ذَلِك ملازماً أَيَّام قَضَائِهِ للاقراء مَعَ التَّعْلِيم: درس الْعَرَبيَّة، وَالْأُصُول، وَالْفِقْه، وإقراء الْقُرْآن، والحساب، والفرائض؛ وَعقد مجَالِس الحَدِيث شرحاً وسماعاً، وَرُبمَا نحا فِي بعض أَحْكَامه أنحاء مُصعب بن عمرَان أحد الْقُضَاة قَدِيما بقرطبة؛ فَكَانَ لَا يُقَلّد مذهبا، وَيَقْضِي بِمَا يرَاهُ صَوَابا. وَسَيَأْتِي بسط الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بعد، بحول الله. وَإِن قُلْنَا عَن القَاضِي ابْن بكر إِنَّه كَانَ فِي شَدَائِد أَحْكَامه أشبه عُلَمَاء وقته بسحنون

<<  <   >  >>