مُشَاركَة بالأموال ومساهمة فِي المصايب والنوازل، إِلَى أَن خف الوباء، وَقل عدد الذاهبين بِهِ والمسالمين بِسَبَبِهِ؛ فَأخذ بالجد التَّام فِي صرف الْأَوْقَات إِلَى إمكانها، وَوضع العهود فِي مسمياتها؛ فانتشع بذلك الفل، وَذهب على أَكْثَرهم القل. وَالله لطيف بعباده. وَكَانَ هَذَا الرجل المترجم بِهِ جلدا، قَوِيا فِي نَفسه، بدناً، طوَالًا هاشمياً خلقا وخلقاً، نبيها، نزيهاً، خَطِيبًا، مهيباً، أصيل الرَّأْي، رصين الْعقل، قَائِما على عقد الشُّرُوط وَعلم الْحساب والفرائض على طَريقَة جده وسميه الْوَلِيّ أبي عبد الله. وَلما من الله سُبْحَانَهُ بِرَفْع مَا كَانَ نزل بالناحية المالقية من الطَّاعُون، واستروح من بَقِي بهَا من الْخَلَائق روح الْحَيَاة، وكادت النُّفُوس أَن ترجع إِلَى مألوفاتها، وَتقوم بِبَعْض معتاداتها، نَهَضَ بِنَفسِهِ القَاضِي أَبُو عبد الله إِلَى أَمِير الْمُسلمين السُّلْطَان الْمُؤَيد أبي الْحجَّاج رَحمَه الله وأرضاه {فورد عَلَيْهِ، وَهُوَ بِحَضْرَتِهِ، وَطلب مِنْهُ الإنعام عَلَيْهِ بالإعفاء من الْقَضَاء؛ فأنزله بِمَنْزِلَة التجلة، وراجعه بعد ذَلِك بِمَا حَاصله: حوائجك كلهَا مقضية لدينا، إِلَّا مَا كَانَ الْآن من الإعفاء؛ فَارْجِع إِلَى بلدك، واكتب إِلَيْنَا إِن شِئْت من هُنَالك بِمَا يظْهر لَك، بعد تَقْدِيم الاستخارة. وَلَعَلَّ الْعَمَل أَن يَقع بموافقة إرادتك، إِن شَاءَ الله} فارتحل عَنهُ شاكراً فعله، وداعياً بِالْخَيرِ لَهُ، هُوَ وكل من بلغه عَن السُّلْطَان مَا قَابل بِهِ مستعفيه. هَذَا من التَّلَفُّظ الْجَمِيل، وَالْفضل الجزيل. ثمَّ كتب من بَلَده مالقة، يخبر باستمرار عزيمته على مَا نَوَاه أَولا من الْخُرُوج عَن الْقَضَاء، والاقتصار على الخطة. فوصله الْجَواب بإسعاف غَرَضه. وَتقدم الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم بن سَلمُون الْكِنَانِي قَاضِيا فِي مَكَانَهُ. فأظهر السرُور بذلك كُله. وَلما قدم ابْن سَلمُون على مالقة، تَلقاهُ، وحياه، وَحضر عَن اخْتِيَاره، تخلقاً مِنْهُ وتواضعاً فِي جملَة الْفُقَهَاء وَعَامة أهل الْمصر بالقبة الْكُبْرَى من الْمَسْجِد الْجَامِع، عِنْد قِرَاءَة رسوم الْولَايَة، على الْعَادة الْمُعْتَادَة هُنَالك. ثمَّ انْتقل القَاضِي الْجَدِيد، إِثْر الْفَرَاغ من الْغَرَض الْمَطْلُوب، بالاجتماع إِلَى مجْلِس الْحُكُومَة؛ فَمَال إِلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، وتبعوه بجملتهم، وَتركُوا صَاحبهمْ الْقَدِيم، كَأَن لم يشعروا بِهِ، كَالَّذي جرى ليحيى بن معمر بقرطبة مَعَ أَصْحَابه، إِذْ النَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان. وَلم يثبت إِذْ ذَاك مَعَ الطنجالي أحد من الْقَوْم غَيْرِي، وَغير الْخَطِيب أبي عبد الله بن حفيد الْأمين. فتأملت، أثْنَاء مَا دَار بَيْننَا من الْكَلَام
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute