وورعاً وزهداً؛ استدعاه أَمِير الْمُسلمين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن نصر رَحمَه الله وأرضاه {لحضرته؛ فقلده بهَا قَضَاء الْجَمَاعَة وَالْخطْبَة أَيَّام الْجُمُعَة بِمَسْجِد حمرائها؛ فَخَطب جُمُعَة وَاحِدَة، وَأقَام رسم الْقَضَاء ثَلَاثَة أَيَّام حسبَة، إِذْ كَانَ أَولا قد عزم على تَركه، وَالْخُرُوج عَن عهدته؛ فَلم يقبل كسْوَة، وَلَا أَخذ جراية، وأفصح رَابِع يَوْمه بالاستعفاء عَن خطة الْقَضَاء. وَكَانَ أعلم قُضَاة زَمَانه بِالْأَحْكَامِ، وأحفظهم للمسائل، وأبصرهم بالنوازل؛ لاكنه نَفعه الله بِقَصْدِهِ} هاب أَمر الله، وَأثر مَعَ ذَلِك رَاحَة بدنه، وخلاص نَفسه من تبعاته. وَعلم الْأَمِير صدق مقَالَته، وَصِحَّة عزيمته؛ فأعفاه. وارتحل عِنْد ذَلِك بَقِيَّة يَوْمه إِلَى بَلَده، وَتقدم للخطبة وَالصَّلَاة بالجامع مِنْهُ. وَتَوَلَّى ذَلِك إِلَى وَفَاته، وَلم يَأْخُذ عَلَيْهِ مُرَتبا. مُدَّة حَيَاته. فَكَانَ فِي انقباضه عَن الْولَايَة أشبه النَّاس بمُوسَى بن مُحَمَّد ابْن زِيَاد، إِذْ ولاه الْأَمِير عبد الله من بني أُميَّة الْقَضَاء بقرطبة، وَالصَّلَاة مَعًا بِأَهْلِهَا؛ فصلى بِالنَّاسِ جُمُعَة وَاحِدَة، واستعفى فِي الثَّانِيَة، وَالْتزم الْقعُود بداره والتقوت من فائد عقاره. وَإِضَافَة لفظ الْقَضَاء إِلَى الْجَمَاعَة، جرى الْتِزَامه بالأندلس مُنْذُ سِنِين إِلَى هَذَا الْعَهْد. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْجَمَاعَة جمَاعَة الْقُضَاة، إِذْ كَانَت ولايتهم قبل الْيَوْم غَالِبا من قبل القَاضِي بالحضرة السُّلْطَانِيَّة، كَائِنا من كَانَ؛ فَبَقيَ الرَّسْم كَذَلِك. وَأما قَاضِي الْخلَافَة، بالبلاد المشرقية، فيدعى بقاضي الْقُضَاة. وَمِمَّنْ دعى بِهَذَا اللقب بالأندلس من قُضَاة قرطبة، وَكتب لَهُ بذلك عِنْد اسْمه فِي السجلات المنعقدة عَلَيْهِ والمخاطبات الموجهة إِلَيْهِ، أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن ذكْوَان الْأمَوِي، وَأَبُو بكر يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن وَافد اللَّخْمِيّ؛ وَلم يكن الْأَمر بحدثان ذَلِك كَذَلِك. قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد، وَقد ذكر فِي كِتَابه يحيى بن يزِيد اللَّخْمِيّ: لما دخل عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة قرطبة، وَقَامَ بِالْإِمَامَةِ، ألفى فِيهَا يحيى بن يزِيد قَاضِيا؛ فأثبته على الْقَضَاء، وَلم يعزله إِلَى أَن مَاتَ. قَالَ: وَكَانَ يُقَال لَهُ وللقضاة قبله بقرطبة، قَاضِي الْجند. قَالَ مُحَمَّد بن حَارِث: وَقد رَأَيْت سجلاً عقده سعيد بن مُحَمَّد ابْن بشير بقرطبة، يَقُول فِيهِ: حكم مُحَمَّد بن بشير قَاضِي الْجند بقرطبة. قَالَ: وَإِن تَسْمِيَة القَاضِي الْيَوْم بقاضي الْجَمَاعَة اسْم مُحدث، لم يكن فِي الْقَدِيم. هَذَا مَا ظهر لي رسمه صدر هَذَا الْكتاب، من الْكَلَام. وَفِيه، بِحَسب الْغَرَض الْمَقْصُود من الِاخْتِصَار، غنية كَافِيَة لمتأمله بِعَين الْإِنْصَاف. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب!
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute