لسنا من أهل الشَّهَادَات؛ فقد التبسنا من فتن هَذِه الدُّنْيَا بِمَا لَا تجهله؛ ونخشى أَن توقفنا مَعَ القَاضِي موقف مخزاة، كُنَّا نفديه بملكنا. فصر فِي خصامك إِلَى مَا صيرك الْحق إِلَيْهِ {وعلينا خلف مَا انتقصك} فَأبى عَلَيْهِ سعيد الْخَيْر، وَقَالَ: سُبْحَانَ الله {وَمَا عَسى أَن يَقُول قاضيك فِي شهادتك، وَأَنت وليته، وَهُوَ حَسَنَة من حَسَنَاتك} وَلَقَد لزمك فِي الدّيانَة أَن تشهد لي بِمَا عَلمته، وَلَا تكتمني مَا أَخذ الله عَلَيْك {فَقَالَ لَهُ الْأَمِير: بلَى} إِن ذَلِك لمن حَقك كَمَا تَقول. وَلَكِنَّك تدخل بِهِ علينا دَاخِلَة؛ فَإِن أعفيتنا مِنْهُ، فَهُوَ أحب إِلَيْنَا؛ وَإِن اضطررنا، لم يمكننا عقوقك. فعزم عَلَيْهِ سعيد الْخَيْر عزم من لم يشك أَن قد ظفر بحاجته. وضايقته الْآجَال؛ فألج عَلَيْهِ؛ فَأرْسل الْأَمِير الحكم عِنْد ذَلِك عَن فقيهين من فُقَهَاء حَضرته، وَخط شَهَادَته تِلْكَ بِيَدِهِ فِي قرطاس، وَختم عَلَيْهِ بِخَاتمِهِ، وَدفعهَا إِلَى الفقهين، وَقَالَ لَهما: هَذِه شهادتي بحطى تَحت طابعي {فأدياها إِلَى القَاضِي} فَأتيَاهُ بهَا إِلَى مَجْلِسه، فِي وَقت قعوده للسماع من الشُّهُود فإدياها إِلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهما: قد سَمِعت مِنْكُمَا؛ فقوما راشدين {وانصرفا. وجارت دولة وَكيل سعيد الْخَيْر؛ فَتقدم إِلَيْهِ مذلاً، واثقاً بالخلاص؛ فَقَالَ لَهُ: أَيهَا القَاضِي} قد شهد عنْدك الْأَمِير أصلحه الله {فَمَا تَقول؟ فَأخذ القَاضِي كتاب الشَّهَادَة، وَنظر فِيهِ؛ ثمَّ قَالَ للْوَكِيل: هَذِه شَهَادَة لَا تعْمل بهَا عِنْدِي} فجيء بِشَاهِد عدل {فدهش الْوَكِيل، وَمضى إِلَى مُوكله؛ وأعلمه؛ فَركب من فوره إِلَى الْأَمِير الحكم وَقَالَ لَهُ: ذهب سلطاننا وأزيل بهاؤنا} ويجترئ هَذَا القَاضِي على رد شهادتك، وَالله تَعَالَى قد استخلفك على خلقه، وَجعل الْأَمر فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَيْك {هَذَا مَا لَا يَنْبَغِي أَن تحتمله عَلَيْهِ} وَجعل يغريه بِالْقَاضِي، ويحرضه على الْإِيقَاع بِهِ. فَقَالَ لَهُ الحكم: وَهل شَككت أَنا فِي هَذَا؟ يَا عَم {القَاضِي، وَالله} رجل صَالح، لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم {فَقل الَّذِي يجب عَلَيْهِ، وَيلْزمهُ، ويسد بَابا كَانَ يصعب علينا الدُّخُول مِنْهُ} فَأحْسن الله عَنَّا وَعَن نَفسه جزاءه {فَغَضب سعيد الْخَيْر من قَوْله، وَقَالَ لَهُ: هَذَا حسبي مِنْك} فَقَالَ لَهُ: نعم {قد قضيت الَّذِي كَانَ عَليّ؛ وَلست، وَالله} أعارض القَاضِي فِيمَا أحتاط بِهِ لنَفسِهِ، وَلَا أخون الْمُسلمين فِي قبض يَد مثله {وَلما عوتب ابْن بشير فِيمَا أَتَاهُ من ذَلِك، قَالَ لمن عاتبه: يَا عَاجز} أَلا تعلم أَنه لَا بُد من الْإِعْذَار فِي الشَّهَادَات؟ فَمن كَانَ يجترى على
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute