للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَالَ: ثمَّ برز، وَبَعض وزرائه بَين يَدَيْهِ، وَأَنا خَلفه، وَهُوَ فِي مئزر ورداء؛ فَلم يقم إِلَيْهِ أحد. فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد، بَدَأَ بالقبر؛ فَسلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ثمَّ قَالَ للربيع: أخْشَى أَن تدخل ابْن عمرَان مَتى هَيْبَة، فيتحول عَن مَجْلِسه. وَلَئِن فعل، لَا ولي لي ولَايَة أبدا} ثمَّ سَار إِلَى القَاضِي. فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَ متكياً، أطلق رِدَاءَهُ عَن عَاتِقه، ثمَّ احتبى ودعا بالخصوم، ثمَّ قضى لَهُم بحقهم، وانفصل الْخَلِيفَة إِلَى مَحَله. فَلَمَّا وصل أَمر الرّبيع بإحضار القَاضِي، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ: جَزَاك الله عَن دينك وَعَن نَفسك وَعَن خليفتك أحسن جَزَائِهِ {وَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. فبقى هَذَا الْفِعْل من الْمَنْصُور عبد الله العباسي معدوداً، على مر الْأَيَّام، فِي مناقبه، مَعْرُوفا من فضائله، مرسوماً فِي كتاب حَسَنَاته. وَيَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يكون شَدِيد التثبت فِيمَا أسْند إِلَيْهِ من أَمَانَته، غير هائب فِي الْحق لسلطانه، وَلَا مُتبعا لَهُ فِيمَا يقْدَح فِي وَجه ورعه وَظَاهر أَحْكَامه. ولقضاة الْعدْل فِي هَذَا الْبَاب أَخْبَار حسان، مِنْهَا قصَّة أَحْمد بن أبي دَاوُود مَعَ الواثق، فِي المسالة الَّتِي أغراه بهَا كَاتبه عبد الْملك بن الزيات، ورام إغضابه عَلَيْهِ؛ وَهِي مَسْأَلَة الْأَعْرَاب الَّذين كتب لَهُ فيهم عتاب بن عتاب؛ فَإِنَّهُم كسروا السجْن، وهربوا، فَقطعُوا الطَّرِيق، وارتكبوا العظائم، وانتهكوا الْمَحَارِم؛ وَلَقَد ظفر بهم. وَوَافَقَ الدواة الَّتِي كَانَ الواثق يكْتب بهَا بَين يَدي قاضيه ابْن أبي دَاوُود؛ فَقَالَ لَهُ: قدمهَا إِلَيّ، لأوقع بهَا فِي ضرب أَعْنَاق هَؤُلَاءِ الفتكة} فَأمْسك؛ فَقَالَ لَهُ الواثق: أَنْت قَرَأت عَليّ قَدِيما أَن خَالِد بن الْوَلِيد كتب إِلَى عمر ابْن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا {فِي قوم عتوا وأفسدوا وَقتلُوا، يستأمره فِي أَمرهم. فَكتب إِلَيْهِ بِضَرْب أَعْنَاقهم. أَفلا ترْضى أَن أكون مثل خَالِد وأجرى مجْرَاه؟ فَأقبل القَاضِي عَلَيْهِ وَقَالَ: سَأَلتك بِاللَّه الْعَظِيم} أَنْت كعمر وعتاب كخالد {أشركك فِي دِمَائِهِمْ وأعينك على مَا تُرِيدُ من أَمرهم} فَأمْسك الواثق على الْمُرَاجَعَة وَقَالَ لغلامه: قدم الدواة {فَإنَّا لَا نكلف أَبَا الْعَبَّاس مَا يشق عَلَيْهِ} وعَلى كل حَاكم أَن يكون شَدِيد الحذر من دسائس نَفسه، قَاطعا أَسبَاب مطامعه، وَأَن لَا يكون من شَأْنه حب الْمَدْح فِي وَجهه، والركون إِلَى الثَّنَاء على شيمه؛ فَإِنَّهُ مهما عرف بذلك، تضوحك بِهِ، وَأكْثر الْوُقُوع فِي جنابه، والتهاون بناحيته. قَالَ

<<  <   >  >>