للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويتمهل فِيمَا خالجه فِيهِ شكّ، حَتَّى تظهر لَهُ الْحَقِيقَة؛ أَو يصل المتخاصمان إِلَى التصالح والتراضي. قَالَ ابْن حَارِث: وَلَقَد قَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه السُّلْطَان فِي كَلَام جرى بَينهمَا: إِنَّا لنعيبك بلين الْجَانِب، والتطويل فِي الْحُكُومَة {فَقَالَ لَهُ ابْن بَقِي: أعوذ بِاللَّه من لين يُؤَدِّي إِلَى ضعف، وَمن شدَّة تبلغ إِلَى عنف} ثمَّ جعل يذكر فَسَاد الزَّمَان، واحتيال الْفجار، وَمَا يُبَاشر من الْأُمُور المشتبهة، الَّتِي لَا تتبين لَهَا حَقِيقَة، وَلَا ينْكَشف لَهَا وَجه، وَقَالَ: قد أسندت على عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ {وَهُوَ هُوَ، حُكُومَة قوم طَال نظره فِيهَا، والتبس عَلَيْهِ أمرهَا؛ فكره أَن يحكم على الِاشْتِبَاه، وَأمرهمْ بابتداء الْخُصُومَة من أَولهَا} قَالَ: وحَدثني أصبغ بن عِيسَى قَالَ: كنت يَوْمًا مُقبلا مَعَ القَاضِي أَحْمد بن بَقِي، حَتَّى عَن لنا رجل سَكرَان يمشي بَين يَدَيْهِ مخبولاً؛ فَجعل أَحْمد يمسك من عنان دَابَّته، ويترفق فِي سيره، ويرجو أَن يعدل السَّكْرَان عَن طَرِيقه أَو يحبس بِهِ، فينجو بِنَفسِهِ؛ فَلم يكن عِنْده شَيْء من ذَلِك، إِلَّا أَن توقف مُسْتَقْبلا. فَلم يكن للْقَاضِي بُد من الدنو مِنْهُ، وَالنَّظَر إِلَيْهِ. قَالَ أصبغ: وَكنت أعرف لياذه من مثل هَذَا، وكراهيته للانتشاب فِيهِ، ورقة قلبه من أَن يقرع أحدا بِسَوْط. فَقلت فِي نَفسِي: لَيْت شعري كَيفَ تصنع فِي هَذَا، يَا ابْن بَقِي {وَرُبمَا تتخلص مِنْهُ} فَلَمَّا دنونا من السَّكْرَان، ولصقنا بِهِ، مَال إِلَى أَحْمد؛ فَقَالَ: مِسْكين هَذَا الرجل {أرَاهُ مصاباً فِي عقله} فَقلت: نعم {أَيهَا القَاضِي، ببلية عَظِيمَة} فَجعل يستعيذ بِاللَّه من محنته، ويسأله أَن يأجره على الْمُصَاب فِي عقله؛ ومضينا. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: كَانَ أَحْمد بن بَقِي حَلِيمًا، عَاقِلا، وقوراً، مسمتاً، هيناً، لينًا، صليباً فِي بعض أحيانه، غير أَن الْأَغْلَب عَلَيْهِ كَانَ اللين. لم يكن بالأندلس قَاض يُقَارِبه فِي الصمت وَالْوَقار والسكينة. وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله عَارِفًا بِحقِّهِ، ومجلاً لَهُ، لم يعزله، وَلَا كره شَيْئا من حَاله، إِلَى أَن توفّي سنة ٣٢٤. وَكَانَ قد ولى الصَّلَاة قبل الْقَضَاء. ثمَّ ولى الْقَضَاء، فَاتخذ لخدمته أعواناً شُيُوخًا، وَأولى سداد، سَأَلَ أَن يرزقوا من بَيت المَال، وَأجِيب إِلَى ذَلِك. وَكَانَ من رسمه إِذا جَاءَهُ الحكم الملبس الَّذِي يخَاف

<<  <   >  >>