للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أسس بُنْيَانه على شفا جرف هار فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم " إِلَى آخر الْآيَة. وأتى بِمَا يشاكل الْمَعْنى من التخويف بِالْمَوْتِ، والتحذير من فَجَاءَتْهُ، وَالدُّعَاء إِلَى الزّهْد فِي هَذِه الدَّار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لَهَا، وَالنَّدْب إِلَى الْإِعْرَاض مِنْهَا؛ والإقصار عَن طلب اللَّذَّات، وَنهى النُّفُوس عَن اتِّبَاع هَواهَا. فأسهب فِي ذَلِك كُله، وأضاف إِلَيْهِ من آي الْقُرْآن مَا يطابقه، وجلب من الحَدِيث والْآثَار مَا يشاكله، حَتَّى اذكر من حَضَره النَّاس وخشعوا، ورقوا، واعترفوا، وَبكوا، وضجوا، ودعوا، وأعلنوا فِي التضرع إِلَى الله فِي التَّوْبَة، والابتهال فِي الْمَغْفِرَة، وَأخذ خليفتهم من ذَلِك بأوفر حَظّ، وَقد علم أَنه الْمَقْصُود بِهِ؛ فَبكى، وَنَدم على مَا سلف لَهُ، واستعاذ بِاللَّه من سخطه، إِلَّا أَنه وجد على مُنْذر بن سعيد لغلظ مَا تقرعه بِهِ؛ فَشَكا ذَلِك لوَلَده الْأَمِير الحكم بعد انْصِرَافه، وَقَالَ: وَالله {لقد تعمدني مُنْذر بخطبته، وَمَا عَنى بهَا غَيْرِي} فأسرف عَليّ وأفرط فِي تقريعي، وَلم يحسن السياسة فِي وعظي، فزعزع قلبِي، وَكَاد بعصاه يقرعني {واستشاط غيظاً عَلَيْهِ؛ فأقسم أَن لَا يُصَلِّي خَلفه صَلَاة الْجُمُعَة خَاصَّة؛ فَجعل يلْتَزم صلَاتهَا وَرَاء أَحْمد بن مطرف صَاحب الصَّلَاة بقرطبة، ويجانب الصَّلَاة بالزهراء. فَقَالَ لَهُ الحكم: فَمَا الَّذِي يمنعك من عزل مُنْذر عَن الصَّلَاة بك، والاستبدال مِنْهُ إِذْ كرهته؟ فزجره وانتهره، وَقَالَ لَهُ: أمثل مُنْذر بن سعيد فِي فَضله وَعَمله وخيره؟ لَا أم لَك} يعْزل لإرضاء نفس ناكبة عَن الْحق {هَذَا مِمَّا لَا يكون} وَإِنِّي لأَسْتَحي من الله أَن لَا أجعَل بيني وَبَينه فِي صَلَاة الْجُمُعَة شَفِيعًا مثل مُنْذر فِي ورعه وَصدقه {وَلَا كنه أحرجني، فأقسمت. ولوددت أَنِّي أجد سَبِيلا إِلَى كَفَّارَة يَمِيني، بل يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَيَاته وحياتنا، إِن شَاءَ الله} وقحط النَّاس آخر مُدَّة النَّاصِر لدين الله عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد. فَأمر القَاضِي مُنْذر ابْن سعيد بالبروز إِلَى الاسْتِسْقَاء بِالنَّاسِ فتأهب لذَلِك، وَصَامَ بَين يَدَيْهِ أَيَّامًا، تنفلاً، وإنابةً، وَرَهْبَة. وَاجْتمعَ لَهُ النَّاس فِي مصلى الربض بقرطبة، بارزين إِلَى الله تَعَالَى فِي جمع عَظِيم. وَصعد الْخَلِيفَة النَّاصِر فِي أَعلَى مصانعه المرتفعة من الْقصر، ليشارف النَّاس، ويشاركهم فِي الْخُرُوج إِلَى الله، والضراعة لَهُ، فَأَبْطَأَ القَاضِي حَتَّى اجْتمع النَّاس، وغصت

<<  <   >  >>