بهم ساحة الْمصلى. ثمَّ خرج نحوهم مَاشِيا، متضرعاً، مخبتاً، متخشعاً؛ وَقَامَ ليخطب. فَلَمَّا رأى بدار النَّاس إِلَى ارتقابه، واستكانتهم من خُفْيَة الله، وإخباتهم لَهُ، وابتهالهم إِلَيْهِ، رقت نَفسه، وغلبته عَيناهُ؛ فَاسْتَغْفر، وَبكى حينا؛ ثمَّ افْتتح خطبَته بِأَن قَالَ: سَلام عَلَيْكُم {ثمَّ سكت، ووقف شبه الْحصْر، وَلم يكن من عَادَته. فَنظر النَّاس بَعضهم بِبَعْض، لَا يَدْرُونَ مَا عراه، وَلَا مَا أَرَادَ بقوله. ثمَّ انْدفع تالياً بقوله: سَلام عَلَيْكُم} كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم {وَاسْتَغْفرُوا ربكُم، وتوبوا إِلَيْهِ، وتزلفو بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَات لَدَيْهِ} قَالَ: فهاج النَّاس بالبكاء، وجأروا بِالدُّعَاءِ، وَمضى على تَمام خطبَته؛ فقرع النُّفُوس بوعظه، وانبعث الْإِخْلَاص بتذكيره؛ فَلم ينْقض النَّهَار حَتَّى أرسل الله السَّمَاء بِمَاء منهمر، روى الثرى، وطرد الْمحل، وَسكن الْأَزَل. وَالله لطيف بعباده {وَكَانَ لَهُ فِي خطب الاسْتِسْقَاء استفتاح عَجِيب؛ وَمِنْه أَن قَالَ يَوْمًا، وَقد سرح طرفه فِي مَلأ النَّاس، عِنْد مَا شخصوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ؛ فَهَتَفَ بهم كالمنادي: يَا أَيهَا النَّاس وكررها عَلَيْهِم، مُشِيرا بِيَدِهِ فِي نواحيهم أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد. إِن يَشَأْ يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد. وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} فَاشْتَدَّ وَجل النَّاس، وَانْطَلَقت أَعينهم بالبكاء، وَمضى فِي خطبَته. وَمن أَخْبَار المحفوظة مَعَ الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن، فِي إِنْكَاره عَلَيْهِ الْإِسْرَاف فِي الْبناء، أَن النَّاصِر كَانَ قد اتخذ، لسقف القبيبة المصغرة الِاسْم للخصوصية الَّتِي كَانَت مماثلة على الصرح الممرد الْمَشْهُور شَأْنه بقصر الزهراء، قراميد مغشاة ذَهَبا وَفِضة، أنْفق عَلَيْهَا مَالا جسيماً، وقرمد سقفها بهَا، تشَتت الْأَبْصَار بأشعة أنوارها. وَجلسَ فِيهَا يَوْمًا، اثر تَمامهَا، لأهل مَمْلَكَته، فَقَالَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُم من الوزراء وَأهل الْخدمَة، مفتخراً بِمَا صنعه من ذَلِك: هَل رَأَيْتُمْ أَو سَمِعْتُمْ ملكا كَانَ قبلي فعل مثل فعلي هَذَا أَو قدر عَلَيْهِ؟ فَقَالُوا: لَا {يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ} وَإنَّك لوَاحِد فِي شَأْنك كُله، وَمَا سَبَقَك إِلَى مبتدعاتك هَذِه ملك رَأَيْنَاهُ، وَلَا انْتهى إِلَيْنَا خَبره! فابهجه
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute