للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَوْلهم وسره. وبينما هُوَ كَذَلِك، إِذْ دخل عَلَيْهِ القَاضِي مُنْذر بن سعيد، واجماً ناكس الرَّأْس؛ فَلَمَّا أَخذ مَجْلِسه، قَالَ لَهُ كَالَّذي قَالَ لوزرائه من ذكر السّقف الْمَذْهَب، واقتداره على إبداعه؛ فَأَقْبَلت دموع القَاضِي تنحدر على لحيته، وَقَالَ لَهُ: وَالله {يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا ظَنَنْت أَن الشَّيْطَان لَعنه الله} يبلغ مِنْك هَذَا الْمبلغ، وَلَا أَن تمكنه من قبلك هَذَا التَّمْكِين، مَعَ مَا آتاك الله من فَضله وَنعمته، وفضلك بِهِ على الْعَالمين، حَتَّى ينزلك منَازِل الْكَافرين {قَالَ: فانفعل عبد الرَّحْمَن لقَوْله، وَقَالَ لَهُ: انْظُر مَا تَقول} وَكَيف أنزلتني مَنْزِلَتهمْ؟ فَقَالَ لَهُ: نعم {أَلَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول: وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون. فَوَجَمَ الْخَلِيفَة، وأطرق مَلِيًّا، ودموعه تتساقط خشوعاً لله سُبْحَانَهُ، ثمَّ أقبل على مُنْذر وَقَالَ لَهُ: جَزَاك الله، يَا قَاضِي} عَنَّا وَعَن نَفسك خيرا {وَعَن الدّين وَالْمُسْلِمين أجل جَزَائِهِ} وَكثر فِي النَّاس أمثالك {فَالَّذِي قلت هُوَ الْحق} وَقَامَ عَن مَجْلِسه ذَلِك، وَأمر بِنَقْض سقف الْقبَّة، وَأعَاد قرمودها تُرَابا على صفة غَيرهَا. وَكَانَ هَذَا القَاضِي على متانته وَشدَّة جزالته، حسن الْخلق، خَفِيف الوطاة، سهل الْجَانِب، كثير الدعابة، منطلق الْبشر، حَتَّى أَنه رُبمَا استراب بباطنه من لَا يعرفهُ إِذا شَاهد استرساله؛ فَإِذا دَامَ أحد أَن يُصِيب من دينه، ثار ثورة اللَّيْث. وَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ عَنهُ أَبُو عمر بن لَبِيب، أَنه حضر عِنْد الْخَلِيفَة الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه يَوْمًا، فِي خلْوَة لَهُ، وَهُوَ فِي الْبُسْتَان على بركَة، فِي زمَان صيف شَدِيد الْحر والوهج، وَذَلِكَ منصرف القَاضِي من صَلَاة الْجُمُعَة، فَشَكا إِلَى الْخَلِيفَة من قُوَّة الْحر جهداً؛ فَأمره بخلع ثِيَابه، وَالتَّخْفِيف عَن جِسْمه؛ فَفعل؛ فَلم يطف ذَلِك مَا بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحكم: من الصَّوَاب أَن تنغمس فِي هَذَا الصهريج انغماسة تبرد جسمك وتعدله. فَقُمْ {فَلَيْسَ هَا هُنَا من تحتشمه} وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُمَا جَعْفَر الصقلبي أثير الْخلَافَة، لَا رَابِع لَهُم؛ فَكَأَنَّهُ استحيى من ذَلِك، وانقبض عَنهُ وقاراً. فَأمر الحكم حَاجِبه جعفراً بسبقه إِلَى النُّزُول فِي الصهريج، ليسهل الْأَمر فِيهِ على القَاضِي؛ فبادر جَعْفَر إِلَى ذَلِك، وأتزر، وَألقى بِنَفسِهِ

<<  <   >  >>