للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحكم بها، وجمع قبائل قريش، فأنزلهم أبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورءوس الجبال فقسم منازلهم بينهم١. وهذه الرواية التي ذكرها الطبري تقطع مع ما ذكرنا بأن مكة كانت قائمة قبل مجيء قصي. ولعل ما دعا هؤلاء المؤرخين إلى هذا القول هو محاولتهم نسبة شرف إنشاء مدينة مكة إلى قصي القرشي الذي هو الجد الخامس للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولما وقر في الأذهان من تعظيم قريش والإشادة بفضلها، وبخاصة أن هؤلاء المؤرخين والأخباريين مسلمون نشئوا في ظل حكم قرشي.

وهذا القول نفسه هو الذي حدا بالمؤرخين الغربيين إلى التشكك في روايات الأخباريين العرب وإلى التشكك في وجود قصي نفسه. على أنه ليس من الصواب المغالاة في هذا التشكك، فإن العهد بقصي ليس بعيدًا، وليس من الحق نفي وجود شخصية تاريخية قامت بدور كبير في حياة مكة. ومهما تكن المبالغة في تصوير هذا الدور؛ فإن مائة وخمسين سنة ليست عهدًا طويلًا بحيث تدخل حوادثها وأشخاصها في حيز الأساطير، وبخاصة إذا قدرنا قيمة الذاكرة العربية، ومقدار اهتمام الناس بأنسابهم وأعمال آبائهم في تلك الأيام، على أن معالم الآثار قد بقيت فترة طويلة في العصر الإسلامي؛ فقد بقيت دار الندوة -وهي دار قصي التي جعلها منتدى القبيلة- معروفة باسمها حتى اشتراها معاوية بن أبي سفيان من صاحبها بمائة ألف درهم. وجعلها دار الإمارة بمكة، ثم أمر الخليفة المعتضد بالله العباسي بهدمها وإدخالها في المسجد الحرام٢. أما القول بنسبة قريش إلى الشمال؛ فإنه مهما بدا معقولًا من وجهة التدليل المنطقي، فإنه يفتقر إلى الدليل التاريخي؛ فلا يوجد في المصادر العربية القديمة ولا في غيرها، ما يشير إلى هذه الهجرة الشمالية إلى وادي مكة والإقامة حوله، في الوقت الذي تؤكد فيه هذه المصادر وجود بطون قريش حول مكة٣.

ونحن إذا تتبعنا جداول الأنساب؛ وجدنا أن أمهات أجداد قصي من قبائل كانت تعيش في منطقة مكة أو حولها، فأم كنانة من قيس عيلان، وأم مالك بن النضر من


١ الطبري ٢/ ١٦.
٢ عبد الحميد العبادي: صور من التاريخ الإسلامي "العصر العربي" ص١٢. ابن الأثير ٢/ ١٤.
٣ ابن هشام ١/ ١٠٣ وما بعدها. الطبري ٢/ ٣٩. ابن الأثير ٢/ ١٥- ٢٣. ابن كثير ٢/ ١٨٧، ٢٠٦، العبقري ١/ ١٩٦.

<<  <   >  >>