للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على اعتبار أن الحجاج هم ضيفان الله وأن أحق الضيف بالكرامة هم ضيف الله، وأن على قريش -وهي تسكن في حمى بيت الله وتقوم عليه- أن تقوم بهذا الواجب السامي١. وكان هذا العمل من قصي ينطوي على حكمة سياسية كبيرة؛ فإن إمداد الحاج بالطعام يدعو إلى الإقبال على القدوم إلى مكة، وخصوصًا إذا قدرنا بعد الشقة وصعوبة حمل المؤن والزاد مع السفر في الصحراء مسافات طويلة٢، كما أن البادية كانت فقيرة وكان إطعام الطعام فضيلة من أكبر الفضائل التي يتمدح بها العرب وينال صاحبها عن طريقها الاحترام العام والمنزلة الرفيعة. كما أن المؤاكلة تعد عقد جوار عند العرب، فإذا أطعمت قريش القبائل القادمة إلى مكة في موسم الحج فإنها تنال بذلك احترامًا عامًّا، ومنزلة سامية في نظر هذه القبائل، كما تعتبر أنها تعاقدت معها برابطة الجوار والأمن نتيجة لهذه المؤاكلة، وبذلك يصبح في إمكان قريش أن تسير آمنة في أراضي هذه القبائل؛ ولذلك كانت الرفادة وظيفة سامية في مكة، وكانت توكل إلى العشائر العريقة من قريش. على أن هذه الوظيفة ليست مستحدثة كلية؛ فإن الأخباريين يروون أن عمرو بن لحي زعيم خزاعة كان يطعم الحاج، وقالوا: إنه ربما ذبح أيام الحج عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة في كل سنة، يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق٣؛ ولكن يبدو أن هذا التقليد لم يصبح وظيفة مقررة إلا في عصر قصي بن كلاب.

هذه الوظائف الثلاث -السدانة والسقاية والرفادة- لم تكن وظائف قبلية؛ وإنما هي وظائف استلزمها وجود الكعبة بمكة وقيام الحج إليها والرغبة في تيسيره؛ حتى تجني مكة من وراء ذلك الفوائد المادية والأدبية التي كانت ضرورية لحياتها كبلد يعتمد على التجارة وعلى الاتصال بالقبائل من حوله. ولم تكن هذه المناصب تشكل إدارة محلية، وإنما كانت مزايا تعطي فرصًا للكسب المادي، والمنزلة الأدبية.


١ نفسه ١/ ١٤١- ١٤٢.
٢ البخاري ٢/ ١٣٤ "وكان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس".
٣ ابن كثير ٢/ ١٨٧.

<<  <   >  >>