للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حملة أبرهة بظروف بعيدة عن عمل المكيين ١؛ فقد تفشَّى المرض في جيش أبرهة وهو على أبواب مكة بعد أن عجزت القبائل عن التصدي لهذا الجيش، كما عجزت مكة عن تهيئة قوة لحربه والوقوف في وجهه، وقد زاد هذا الحادث من مكانة مكة الأدبية، وأكد زعامتها السياسية والروحية.

وعلى الرغم من هذا العمل العدواني من جانب الحبشة؛ فإن العلاقات ظلت قائمة بين البلدين؛ لحاجة كل منهما إلى الآخر، ولأن الحبشةلم تفكر بعد ذلك في تكرار هذا العمل العدواني، وبخاصة بعد أن تغيرت الظروف بطردها من اليمن؛ ولأن قريشًا اطمأنت لمركزها بعد تراجع الأحباش عنها وبعد خروجهم من الجزيرة العربية كلها بعد هزيمتهم أمام الفرس. ولم يصبح أمام الحبشة إلا هذا الوسيط العربي الذي يقوم على التجارة، فإنه لم يكن من المستطاع أن تخلق تجارة مع الفرس أعدائها وأعداء حلفائها الروم.

وفي أيام البعثة النبوية كانت علاقة مكة مع الحبشة علاقة وطيدة، وكان تجار قريش على صلة دائمة وعلاقات طيبة مع هذه البلاد وعلى معرفة أحوالها؛ الأمر الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يفكر أول ما يفكر في الحبشة حين اضطر إلى أن يشير على أصحابه بالهجرة، فهاجروا إليها ووجدوا فيها ملجأ وحماية، وفي حسن استقبال هؤلاء المهاجرين ورعايتهم، وفي إرسال قريش سفارة قابلت النجاشي وفاوضته في رد هؤلاء المهاجرين ٢ ما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين البلدين. وقد ظلت العلاقات الطيبة قائمة بينهما بعد ذلك مدة طويلة.

ولا بد أن صلة مكة التجارية بالجنوب قد ازدادت بعد قفل طريقها الشمالي إلى الشام بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب ودخوله في صراع مع قريش، فإن بلدًا مثل مكة لا يقوى على عدم المتاجرة وإلا أكل رءوس أمواله وهدد بالخراب.


١ انظر سورة الفيل.
٢ ابن هشام ١/ ٢٤٣، ٣٥٦-٣٦١. Oleary, P. ١٨٤.

<<  <   >  >>