أتيحت لها فرصة التنظيم والاستقرار والتي كانت بعيدة عن مجال التصارع الدولي في ذلك الوقت، وكانت إلى ذلك بعيدة عن التأثر بالحضارات الأجنبية من غير أن تفقد الاتصال بها، فقد كانت مكة على صلة بدول ذلك الزمان من بيزنطيين وفرس وأحباش، وكانت تعرف من أمورها وحضارتها قدرًا يكفي للتعامل معها والاستفادة منها١، ولكنها كانت أبعد عن التأثر بالحضارات المجاورة من لخم وغسان واليمن، وهذه الميزة هي التي جعلت بيئة مكة عربية خالصة قادرة على خلق نهضة تعبر عن روح العروبة تعبيرًا دقيقًا قادرًا على جمع العرب، ولسنا نشترط في هذه البيئة الخالقة أن تكون مغلقة تمامًا أمام كل تأثير أجنبي, مثل هذا الانغلاق لا يتأتى للدول المجاورة للعالم المتحضر، فمكة كانت على اتصال بالبلاد المجاورة بحكم حياتها الاقتصادية, إلا أنهالم تكن تعرف هذه البلاد المعرفة التي تفقدها شخصيتها أو التي لا تترك لها إلا مجال التقليد، وهذا الاتصال المحدود بالعالم الخارجي ميزة جعلت البيئة الحجازية قادرة على الأصالة والحيوية, الأمر الذي لم يكن موجودًا في غيرها من أرجاء الجزيرة العربية؛ ولذلك كانت أصلح بيئة للنهضة بالعرب، وأصلح وسط يستطيع أن يخرج للناس نهضة جديدة ونظامًا جديدًا.
وكذلك وجود البيت الحرام في مكة، وقيام قريش على رعايته وتنظيم الحج إليه، وإقامة الأسواق العامة في موسمه وأسواقه كان فرصة لتجمع العرب في بقعة واحدة يزاولون فيها مختلف النشاط الديني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكان فرصة لتبلور الأفكار وحل المشاكل، ومظهرًا من مظاهر الإحساس بالقومية والترابط.
وكذلك أتاحت الظروف الداخلية والخارجية لقريش أن تجمع في يدها التجارة الخارجية، وتقوم على تنظيمها وإعداد القوافل لنقلها بين الجنوب والشمال, مستغلة فرصة التصارع الدولي وانشغال الفرس والروم بذلك الصراع الدموي بينهما، وكذلك مستغلة المركز الأدبي والديني الذي حظيت به بين القبائل العربية؛ الأمر الذي أعانها على القيام على أمر هذه التجارة والنجاح في ذلك، مما أكسب القرشيين ثروة كبيرة، فأصبحوا يتميزون بالثروة إلى جانب الميزة الدينية والأدبية، وبذلك حظيت مكة باحترام عربي عام، وحظيت قريش برياسة عامة بين القبائل العربية، وأصبحت في