موقف الزعامة والتشريع لهذه القبائل. وهكذا أصبحت أهلًا لأن تكون موضع النواة في قيام نهضة قومية عربية. واطمأنت قريش إلى هذا المركز وعملت على تدعيمه وحرصت على دوامه.
لكن مكة -بالوضع الذي كانت عليه قبل ظهور الإسلام- لم تكن تملك إلا أن تبلور الثقافة العربية الجاهلية وتبرزها, على حين كان الروح العربي يتطلع إلى مثل جديدة تساير نهضته الجديدة وتدعمها غير المثل القديمة التي بدءوا يبرمون بها، والتي بدأ التبرم بها يبدو واضحًا في مكة نفسها.
والدليل على أن الجاهليين كانوا يتطلعون إلى نظام جديد، أنهم كانوا -حسب تفكيرهم- يتحدثون عن علامات ونذر تنبئ عن قرب ظهور نبي منهم١. وقد روى القدماء معجزاتٍ ونذرًا قالوا: إنها وقعت قبل ظهور الإسلام إرهاصًا به ومنبئة بقرب ظهوره، وتلك الروايات -إن صحت- كانت دليلًا على أن الجاهليين تطلعوا إلى الإصلاح وإلى ظهور مصلح من بينهم، وكان الإصلاح قديمًا لا يأتي إلا على أيدي الحكماء والأنبياء؛ وهذا التطلع الطبيعي في كل جماعة إحساس ضروري يسبق كل حركة إصلاحية ويمهد لها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرر أن العرب في الجاهلية أحسوا بضرورة الإصلاح؛ وهذا الإحساس هو الذي هيأهم للانتقال من حال إلى حال. وكانت البيئة مستعدة لقبول النظام الجديد؛ لأنها بيئة لها وحدتها المتميزة من الناحية اللغوية ومن ناحية الجنس؛ فالجاهليون كانوا يفهمون لغة واحدة وإن اختلفت لهجاتهم، بدليل قصائد الشعراء الجاهليين التي كان يفهمها العرب جميعًا في الشمال والجنوب، وأما وحدة الجنس فظاهرة في حفظ العرب لأنسابهم وردها كلها إلى أصل واحد، فهم شعب يتصل أفراده بصلة الدم والقرابة أوثق ما يربط الناس من رباط، فالعرب برغم انقسامهم إلى مجموعات كبيرة -قحطانية ومضرية وربيعية- فإن شعورهم بالوحدة والقرابةلم يضعف، فهم كأبناء الأب الواحد اختلفت بيوتهم، وعلى هذين الأساسين القويين في كيان الأمم -اللغة والجنس- بنى الإسلام حين جاء الوحدة الجديدة. وقد عملت هذه الأسس شيئًا فشيئًا على أن يتم العرب وحدتهم؛ فأحسوا بأن المثل القديمةلم تعد معبرة عن أنفسهم، فأخذوا ينتقدونها, وأخذوا يتحولون عنها وينشدون مثلًا جديدة في النواحي الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.