للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمفهوم الثاني هو الخاص بفكرة الحساب وما يتصل بالحساب من معانٍ، فالله يعلم الجهر وما يخفى، والإنسان رهين بما كسب: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر] ١ فإذا جاءت القيامة حوسب المرء على عمله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة] . {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} [الإسراء] . ثم إن الله حين وضع الحساب فرض على نفسه هداية الناس: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء] ٢ فأرسل إليهم الرسل رسولًا إثر رسول؛ لأن الله لم يكن ليخلق الناس ويتركهم سدى بدون هداية. {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة] . وهذا الحساب يكون في يوم القيامة بعد البعث، وقد أنكر الجاهليون البعث كما أنكروا الحساب: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون] {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد] ، ويتساءلون في إنكار: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة} [القيامة] .

والمهم في فكرة الحساب أنها تجعل المرء من نفسه وازعًا يزعه فيتجه به إلى الخير ما أمكن؛ ففكرة الحساب أساس الأخلاق، وفكرة الحساب معروفة في الأديان الأخرى وحتى في بعض الأديان الوثنية كالديانة المصرية القديمة. ولكن مفهوم البعث والحساب لم يكن معروفًا بالصور التي أقرها الإسلام؛ فكل ما عرف من قبل أنه يوجد بعد الحياة الدنيا حياة أخرى يلقى فيها المرء خيرًا أو شرًّا، وقد لا يجديه العمل الصالح بغير شفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء ورضاء الكهنوت. ولكن الإسلام قرر أن الحياة أطوار, من لدن أن يكون الإنسان ماءً دافقًا يخرج من بين الصلب والترائب، إلى أن يكون جنينًا، ثم وليدًا, ثم يجري في طور الحياة الظاهرة إلى أن يموت, فيحيا حياة الروح، ثم يبعث يوم القيامة وقد اكتملت فيه أطوار الحياة فيبعث بجسمه وروحه كما كان خلقه ثم ينال جزاءه حسب عمله. وعمله مسجل عليه في ظاهره وفي باطنه؛ فالإنسان محاسب على الأعمال وما وراء الأعمال من نية وقصد: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى". وكل ذلك مجموع له لا تشفع فيه شفاعة الشافعين، ولا


١ انظر سورة النحل: ١١١.
٢ انظر سورة يونس ٤٧.

<<  <   >  >>