للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تقوم بين الإنسان وبين الله وساطة، ولا يؤخذ المرء بعمل غيره: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه} [الانفطار] {يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان] . والعدل المطلق هو الذي يحكم, وإلى جانب العدل كانت الرحمة. وأول ما يحاسب عليه الإنسان هو العقيدة؛ فالإيمان بالله أولًا، فإذا وجد جرى الحساب على الأعمال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء] ، وإن لم يوجد فإن الإنسان هالك في النار خالد فيها.

وقد صور القرآن الحياة الأخرى تصويرًا ماديًّا واضحًا، فالمؤمنون المتقون يحيون في جنة حوت كل أنواع النعيم، والصورة التي رسمها القرآن للجنة صورة أخاذة رائعة تأخذ بمجامع النفوس وتغري بعمل الخير والسعي نحو الفضيلة. أما الكافرون فمصيرهم إلى نار حامية يلقون فيه ألوانًا من العذاب تقشعر لوصفه الأبدان وتهلع القلوب.

وعلى غير هذا المفهوم كانت الديانة اليهودية، فإنها لا تميل إلى تصور العالم الآخر، بل عندهم الجزاء ثوابًا وعقابًا، في هذا العالم، وفيما كانوا يخافونه مما قد يسلطه الله عليهم من أنواع الخوف والجوع وما إلى ذلك من عذاب الدنيا. وفيما أورد القرآن من قصص العهد القديم أمثلة لنزعة الحضارة العبرية نحو مفهومات الجزاء الغيبي، من حيث ارتباطه بمصير المجتمع في حياته الحاضرة، ومن الممكن أن نتبين هذا إذا نظرنا مثلًا في قصة نوح أو قصة لوط وفي غيرها من قصص بني إسرائيل؛ فلم يكن تفكيرهم في اتجاهه العام يهتم بخلود الروح بعد الموت؛ وإنما كان تفكيرهم وثيق الصلة بهذه الحياة لا يكاد يحفل بما وراءها من ظواهر. والأديان الأخرى -إذ كانت تعد الموت انحلالًا جسميًّا خالصًا فكانت تفترض البعث للروح وحدها- لم تقل بأي شأن للحواس في الحياة الآخرة١.

وغير هذا أمر الإسلام الذي يقول ببعث الإنسان بعنصريه من كل وجه، وهو إذ يصور نعيم الجنة نعيمًا ماديًّا يجعل أعلى درجات النعيم روحانيًّا؛ فأكرم المؤمنين عند الله من يمتعه الله بالنظر إلى وجهه تعالى غدوًّا وعشيًّا.


١ سيديو، تاريخ العرب ٦٥.

<<  <   >  >>