للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمفهوم الثالث هو ما يختص بفكرة الكتاب المنزل، فالذي يوحى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب منزل من عند الله وليس من قول البشر: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج] يتكفل الله ببقائه وصيانته وعدم نسيانه، وهو من كلام الله بحروفه ومعناه. لا يزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شيئًا ولا ينقص، فهو كلام مقدس بنطقه ومعناه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة] والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع أن يتقول على الله شيئًا، وإلا نال من ربه عقابًا شديدًا: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة] .

وقد وجدت الكتب السماوية من قبل القرآن، ولكن استقرار أن الكلام بنصه ولفظه من عند الله لم يكن موجودًا في غير القرآن، فالتوراة كتبت من بعد موسى وتضمنت فصولًا كتبت بعد وفاته، كما حوت تاريخًا ونبوءات من قبل موسى ومن بعده، كذلك تعددت ترجمتها والإضافات إليها. والإنجيل كتبه تلاميذ المسيح وضمنوه جملًا من كلام المسيح نفسه، فليس الإنجيل كله كلامًا منزلًا بنصه وحروفه من عند الله١، وحتى كلام المسيح نفسه لا يمكن أن يقال إنه بنصه وحروفه ولكن بمعناه، ولا يخرج الأمر في الإنجيل عن طريق الحديث عند المسلمين؛ ولذلك تعددت كتابة الإنجيل، بل وتعددت الأناجيل لدرجة كبيرة. ولم يجد المسيحيون ولا اليهود حرجًا من ذلك؛ لأن فكرة الكتاب المنسوب بلفظه ومعناه إلى الله لم تكن موجودة من قبل القرآن، وعلى مثل ذلك كانت الحال في الكتب الدينية الأخرى.

أما الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد تقيد محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه فيه، بحيث إنه ليس في إمكانه أن يزيد فيه حرفًا أو ينقص حرفًا، وليس في إمكانه أن يأخذ فيه المعنى دون اللفظ، فالله يوحي قوله إلى جبريل، وجبريل يلقيه على محمد -صلى الله عليه وسلم- ومحمد يتلوه على الناس كلامًا مقدسًا كما سمعه. والآيات التي أشرنا إليها آنفًا تقر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ملزم بألا يستعجل فينطق بالوحي قبل أن يستقر بلفظه كما هو مستقر في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعناه، وتشهد بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس في إمكانه أن يتقول على الله شيئًا.


١ انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتقنة عندنا كما سلمها إلينا حين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك يها العزيز توفليس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به ... ".

<<  <   >  >>