للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مشاحنات واشتباكات كادت تؤدي إلى فتنة١، ثم تحزب بعض الرجال ضد الصحيفة وقاموا على نقضها، ورأى رجال الملأ أن الحصار قد فشل في إجبار المحصورين على التسليم، وأن الفتنة أوشكت أن تحدث في مكة، فاضطروا إلى تمزيق الصحيفة، وعاد بنو هاشم المسلمون إلى دورهم وإلى مزاولة حياتهم العادية٢ في مكة، وإن كانت قريش قد استمرت في سياسة المقاومة والعدوان.

لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يلبث بعد نقض الصحيفة أن أصيب بصدمة شديدة كان لها وقع شديد الأثر في نفسه، كما كان لها أثر كبير في تغيير اتجاهه في سياسة الدعوة الإسلامية؛ فقد أصيب بفقد زوجته خديجة، تلك الزوجة الصالحة التي كانت ملاذه في شدته، وكانت بإيمانها ومواساتها ملجأه يجد في جوارها راحة نفسه. كما أصيب بموت عمه أبي طالب الذي كان بمثابة الستار الذي يحول بين محمد وبين مواجهة خصومه وجهًا لوجه. وبفقد زوجته فقد التأييد المعنوي النفسي القريب، كما فقد بموت عمه التأييد الأدبي والمادي، وكان فقدهما لذلك عظيم الوقع في نفسه حتى سمي عام موتهما بعام الحزن٣.

وبدت بيئة مكة -المتمسكة أشد التمسك بتقاليدها، الحريصة على مصالحها المادية -غير صالحة لنشر المبادئ الجديدة؛ لذلك اضطر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تخفيف نشاطه في الدعوة بين أهل مكة، وفكر تفكيرًا جديًّا في مكان آخر يكون أصلح للدعوة، وأخذ ينتهز بعد هذا العام كل فرصة من الفرص التي يجتمع فيها الناس في المواسم العامة التجارية والدينية ليعرض على رؤساء القبائل دعوته الجديدة ويدعوهم لقبولها، وليعرض عليهم الانتقال إلى أرضهم٤. ولم يفد محمد -صلى الله عليه وسلم- من عرضه نفسه على القبائل شيئًا، إذ كانت هذه القبائل تحترم قريشًا وتحرص في الوقت نفسه على حسن العلاقة معها حرصًا على مصالحها المادية المرتبطة بتجارة قريش. على أن قريشًا لم تأل جهدًا في الدعاية ضد دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان رجالها يتبعونه في كل مكان، يعارضون دعوته ويحذرون القبائل من


ابن هشام ١/ ٣٧٦.
٢ نفسه ١/ ٣٩٧- ٤٠٠.
٣ ابن هشام ٢/ ٢٥-٢٦، ابن سعد ١/ ١٩٥، الطبري ٢/ ٨٠.
٤ ابن هشام ٢/ ٣١-٣٢.

<<  <   >  >>