للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكلمة الأمين في الأصل كان يطلقها اليهود على الأمم الأخرى، وفي الحجاز أطلقوها على العرب، وتعني غير الكتابيين١، ومما يؤيد هذا أنه لم تكن لليهود في المدينة وفي أقاليم الحجاز عصبية قبلية بين العرب؛ وإنما كانت صلاتهم بالقبائل العربية صلة حلف ومصالح مشتركة؛ ولذلك لم يجدوا من قبائل العرب من يقف إلى جانبهم بدافع العصبية حين حاربهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وطرد بعضهم من المدينة وقضى على بعضهم الآخر؛ بل إنهم حين خرجوا من المدينة لم يلجئوا إلى قبائل العرب ينزلون عليها استنادًا إلى رابطة القربى؛ وإنما لجئوا إلى إخوانهم في خيبر وتيماء ووادي القرى، ثم رحلوا إلى الشام٢.

وقد ابتنى اليهود الحصون والقلاع والقرى المحصنة ليقيموا فيها ويتحصنوا بها في أوقات الحروب حين يغزوهم الأعراب الطامعون في أموالهم وحاصلاتهم الزراعية. ويرجح أن فكرة إقامة الحصون والآطام على قمم التلال في يثرب وفي شمال الجزيرة العربية إنما أتى به اليهود من فلسطين وطنهم الذي وفدوا منه والذي كثرت في جباله الحصون المنيعة، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يطمئنون كل الطمأنية في المجتمع العربي، فعمدوا إلى اتخاذ القرى والحصون ليقووا فيها على الدفاع عن أنفسهم؛ ولذلك كانوا في سكانهم منعزلين عن العرب يعيشون مع بعضهم عيشة التكتل والأحياء الخاصة على ما جرت عليه عاداتهم منذ القديم. كما يدل هذا أيضًا على أن أحداثًا خطيرة كانت تقع بين العرب واليهود من حين لآخر، اضطرتهم إلى إقامة الحصون، ثم إلى عقد المحالفات مع العرب والاندماج الظاهري في تقاليدهم العصبية الاجتماعية والقبلية.

أما لغة اليهود في بلاد العرب فقد كانت العربية بطبيعة الحال؛ ولكنها لم تكن خالصة بل كانت تشوبها الرطانة العبرية٣، لأنهم لم يتركوا استعمال اللغة العبرية تركًا تامًّا، بل كانوا يستعملونها في صلواتهم ودراستهم، فكان من الضروري أن يدخل في عربيتهم بعض العبرية٤. وقد كان لهم في المدينة كيان طائفي وديني، وكان لهم


١ تفسير الطبري ٢/ ٢٥٧- ٢٥٩، ٦/ ٢٨١.
٢ الواقدي ١٤١، ٣٩٠.
٣ يقول المقريزي في مقتل أبي رافع اليهودي: "واستفتحوا على أبي رافع فقالت امرأته: ما شأنكم؟ فقال لها عبد الله بن عتيك -وكان يرطن باليهودية: جئت أبا رافع بهدية" إمتاع الأسماع ١/ ١٨٧. وقد أمر رسول الله زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم كتاب يهود وقال: "لا آمن أن يبدلوا كتابي" نفسه.
٤ ولفنسون ٢٠.

<<  <   >  >>