للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثانيًا: أن أبا جبيلة لم يكن ملكًا من ملوك غسان بل كان عظيمًا عند ملك غسان. وينسبه النسابون إلى أحد بطون الخزرج الذين رحلوا إلى الشام وأقاموا مع الغساسنة١. ويورد السمهودي رواية هامة، وهي أن مالك بن العجلان بعث جماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم بحالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود٢، وتدل هذه الرواية على أن استنصار الأوس والخزرج إنما كان بقوم يمتون إليهم بصلة القرابة على ما جرت عليه العصبية القبلية، على أن الأمر من ناحية عرب الشام كان استجابة لاستصراخ الأوس والخزرج لهم كما يذكر المؤرخون ولم يكن تحريضًا من الغساسنة لهم على اليهود. ولو كان الأمر هجومًا من الغساسنة على اليهود بدافع التعصب الديني؛ لكان أولى بهم أن يهاجموا الجماعات اليهودية في خيبر ووادي القرى، وهي منهم أقرب، ويؤيد هذا الرأي ولفنسون نفسه فهو يقول: والذي يمعن النظر في تاريخ بطون يثرب يرى أن الطوائف الضعيفة في المدينة كانت تعمل سرًّا على إيجاد محالفات مع قبائل عربية قريبة وبعيدة، فمن المحتمل أن تكون الأوس والخزرج قد حالفت بطون بني غسان لمحاربة اليهود في عصر أبي جبيلة ٣.

ثالثًا: أن الديانة المسيحية لم تكن عميقة التغلغل في نفوس القبائل العربية التي اعتنقتها بحيث تتعصب لها تعصبًا شديدًا، بدليل أنها لم تلبث أن دخلت الإسلام بعد اتصالها بجيوش الخلفاء الراشدين بلا كبير مقاومة. هذا إلى أن الصراع الذي كان قائمًا بين الدول في ذلك الوقت لم يكن صراعًا دينيًّا؛ وإنما كان صراعًا سياسيًّا اقتصاديًّا وإن استخدم الدين كوسيلة من وسائله، فلم تكن الدولة الرومانية الشرقية تعمل لقهر اليهودية كدين، ولا كان الفرس يشجعونها لغرض ديني. وإنما كان الغرض سياسيًّا عند كلتا الدولتين. على أن علاقة اليهود لم تكن سيئة ببلاد الشام، بل إنها على الأرجح كانت حسنة، فكان بعض اليهود يرسل قوافله التجارية إلى بلاد الغساسنة٤، وبدليل أن اليهود حين أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يثرب هاجروا إلى بلاد الشام، ولو كانت العلاقات بينهم وبين الغساسنة أو الروم سيئة لاتجهوا إلى مكان آخر كالعراق الذي كانت


١ جمهرة ٣٣٦- ابن خلدون، ٢٠/ ٢٨٩، ابن الأثير ١/ ٤٠٢، السمهودي١/ ١٢٦.
٢ السمهودي: نفسه ٥.
٣ ولفنسون ١٠٣.
٤ تاريخ الخيس ٢/ ١٢.

<<  <   >  >>