للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن يدخل في الإسلام من الأعراب ويهاجر ليقيم بالمدينة ما يزيد العرب بها قوة ويزيد اليهود بها ضعفًا، ويقضي على كل حلم يراود نفوسهم في استعادة مركزهم أو حتى الاحتفاظ بهذا المركز.

ثم إن المهاجرين المكيين ما لبثوا أن اقتحموا الميدان الاقتصادي والتجاري منه بنوع خاص، ولهم من الخبرة بشئون التجارة ما تضاءلت معها خبرة اليهود، وليس أبرع من تاجر قرشي في ذلك الوقت، فما لبثوا أن نظموا سوق المدينة وأجروا فيها التعامل على أسس جديدة جاء بها الإسلام، فلا ربًا ولا إرهاقًا ولا طرقًا ملتوية تذهب بأموال الناس، وبذلك نجحوا نجاحًا كبيرًا وجنوا أرباحًا لا بأس بها، وسيطروا -أو كادوا- على سوق المدينة. والمال وجمعه عنصر حساس عند اليهود يبيحون لأنفسهم في سبيله ما لا يباح من دين أو شرف؛ لذلك ما لبثوا أن تنكروا لعهودهم وأخلفوا مواثيقهم، وسعوا إلى تحطيم هذا الوضع الجديد في الداخل والخارج. فأما في الداخل فقد عملوا على إثارة الفتن والأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج١. ثم قاموا يجادلون ويشككون في الدين الجديد، ويصدون عنه من يريد الدخول فيه٢. بل تطرقوا إلى المساس بالأشخاص والأغراض فأخذوا ينشرون قالة السوء، وانبري شعراؤهم ينظمون الشعر في هجاء محمد والمسلمين والتحريض على حربهم، ويشببون بنساء الأنصار٣، بل ائتمروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه يريدون قتله٤. وأما في الخارج فقد اتصلوا بأعداء الدولة وكانوا عيونًا لهم على المسلمين٥ ثم تآمروا مع العدو وخانوا الدولة، وأوشكت مؤامراتهم وخيانتهم أن تقضي على المدينة قضاء تامًّا في غزوة الأحزاب٦.

ولقد عالج النبي -صلى الله عليه وسلم- موقف اليهود في براعة وقدرة، وتغلب على حساسية الموقف التي كانت قائمة بمحالفة اليهود مع بعض بطون الأوس والخزرج، وكانت هذه المحالفات لا يزال لها أثر في هذه البطون؛ فكان لا بد أن يعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- حسابًا لشعورها، فترى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصانع اليهود مرة، ويجادلهم أخرى، ويصبر عليهم حتى تحين فرصة فيقلم أظفارهم، ثم يرى نفسه مضطرًّا آخر الأمر إلى التخلص منهم نهائيًّا.


١ ابن هشام ٢/ ١٨٣، ١٨٤.
٢ نفسه ٢/ ١٣٥، ١٧٠- ٢٠١.
٣ نفسه ٣/ ٤٣- ٤٣٦.
٤ نفسه ٢/ ١٩١.
٥ ابن هشام ٢/ ٤٢٣، ٤٢٤.
٦ نفسه ٣/ ٢٢٩-٢٣٠، ٢٣٧.

<<  <   >  >>