للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيفة وكان طرفها الأول المهاجرين، والطرف الثاني الأنصار، وكانت من بنودها ألا تُجَارَ قريش ولا أموالها. وكان على الطرفين الالتزام بنصوص هذه الصحيفة، والدفاع عن الدولة من الاعتداء عليها؛ لكن الأنصار حين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الكبرى اشترطوا على أنفسهم أن يحموه ما دام في المدينة١، ولم يشترطوا على أنفسهم أن يقاتلوا معه خارج حدود مدينتهم. وكان موقف الأنصار مختلفًا عن موقف المهاجرين بالنسبة لقريش؛ فإن المهاجرين كانوا في حالة حرب معلنة بينهم وبين أهل مكة بما عذبوهم وضيقوا عليهم، وبما أوقعوا عليهم من حصر اقتصادي حتى اضطروهم إلى الهجرة، وهم حين هاجروا استولت قريش على أموالهم، ثم إن بعضهم كان لا يزال محبوسًا في مكة يلاقي العذاب والإعنات.

أما بالنسبة للأنصار فلم تكن هناك حرب معلنة بين الطرفين، ولم يكن هناك إلا ما تفرضه بنود الصحيفة من عدم إجارة قريش أو تجارتها، ومن أمر الدفاع عن الدولة الجديدة، ولم يكن الأمر قد تبلور في نفوس الأنصار إلى ما يوضح الاعتداء على حقوق السيادة للدولة وأن انتهاك حرمة أراضيها هو نوع من الاعتداء عليها؛ فقد كان القوم حديثي عهد بهذا النوع من التنظيم، ولم يعرفوا من قبل غير التنظيم القبلي أساسًا للحكم، فلم يدركوا بعد معنى سيادة الدولة ولا معنى الحدود السياسية لها، ولذلك وقفوا موقفًا سلبيًّا إزاء مرور تجارة قريش بأرض الدولة اليثربية وتمسكوا بشروط بيعة العقبة. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك هذا الوضع تمامًا. فلم يطلب من الأنصار الاشتراك في السرايا الأولى، حتى جاءت الحوادث فأدت بطبيعتها إلى اشتراك الأنصار في الوقوف في وجه قريش؛ ذلك أن قريشًا تحدت أهل المدينة ومنعتهم من زيارة الكعبة والدخول في مكة، فقد كان سعد بن معاذ سيد الأوس صديقًا لأحد سادات مكة وهو أمية بن خلف، وكان هذا ينزل على سعد عند مروره بالمدينة، كما كان سعد ينزل عليه إذا ذهب إلى مكة. وقد ذهب سعد إلى مكة معتمرًا ونزل على أمية ثم طلب إليه أن ينتهز فرصة يطوف فيها بالكعبة وعند الطواف لقيه أبو جهل بن هشام، فلما عرفه هدده بالقتل لولا جوار أمية له. وزاد سعد على تهديد أبي جهل بأن قال له: "أما والله لئن منعتني هذا


١ ابن هشام ٢/ ٢٥٣، ٢٥٤.

<<  <   >  >>