للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وها هم أولاء في يوم أحد تختلف كلمتهم، فمنهم من يرى البقاء بالمدينة والتحصن بها وهؤلاء الكبراء وأصحاب الرأي وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، ومنهم من يرى الخروج ومناجزة العدو حيث هو بظاهر المدينة، وكان هؤلاء هم الأكثرية، وقد أنستهم حماستهم أن يقدروا قيمة العدو، ويعملوا حسابًا لتفوقه العددي، وأن يدركوا ما تضطرب به نفسه من الحقد والحرص على الثأر ليوم بدر، ولم يتفهموا تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم حين خاف عليهم نتيجة الاندفاع في الحماسة والاستخفاف بقوة العدو. ومع ذلك فقد وضح أن هذه الحماسة كانت فورة غمرت النفوس، ثم لم تثبت على محك الحوادث، ذلك أنهم ما كادوا يذكرون بأنه كان يجب عليهم أن يردوا الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تراجعوا عن موقفهم المتشدد في الخروج، ولم يكن الموقف يحتمل التراجع من جانب القيادة؛ وإلا تعرضت الروح المعنوية العامة للانهيار نتيجة للتردد والتراجع في اتخاذ القرارات، وبرغم ما حرص عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من توحيد الصفوف على قرار واحد صدر عن الجماعة، وبرغم حرصه على المحافظة على الروح المعنوية عالية بين رجاله، وبرغم ما وعدهم به من النصر على العدو ما صبروا واستجابوا لروح الطاعة والنظام وحرصوا على تنفيذ أوامر القيادة، برغم كل ذلك؛ فإنه ما كاد الجيش يخرج إلى ظاهر المدينة للقاء العدو حتى تراجع عبد الله بن أبي بثلث الناس مستجيبًا لتحريض حلفائه من اليهود، وحتى بعض المخلصين من المؤمنين اهتزت نفوسهم وتسرب الخوف إلى قلوبهم، وهمت طائفتان منهم أن تتراجعا١، لقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الضعف بين صفوفه فحرص على إمداد رجاله بالصبر واليقين والاعتصام بالإيمان، والثقة في نصر الله الذي آتاهم حين قاتلوا في بدر وكانوا أقل من ذلك عددًا وأضعف عدة، ونزل القرآن يثبت المسلمين ويصور موقفهم: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران] .


١ البخاري ٥/ ٩٦.

<<  <   >  >>