للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما قريش فقد طارت بنصرها فرحًا، وحسبت نفسها انتقمت أشد الانتقام ليوم بدر. حتى صاح أبو سفيان يخاطب المسلمين: يومٌ بيومِ بدرٍ والموعد العام المقبل. ولقد أسرفت قريش في نكايتها بالمسلمين وفي إظهار حقدها وتشفيها، فمثلت بالقتلى: جدعت الأنوف وصلمت الآذان وبقرت البطون، وبلغ الحقد بهند زوج أبي سفيان أن لاكت كبد حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بقرت بطنه وجدعت أنفه وصلمت أذنيه واتَّخَذَتْ من هذه وغيرها من قتلى المسلمين قلائد وأقراطًا ومسكًا -أساورَ١ وكثيرًا من الفظائع التي تبرأ أبو سفيان من تبعتها وأعلن أنه لم يأمر بها وبلغ من شناعة ما فعلت وفعل النسوة معها، بل ما فعل الرجال كذلك -وإن لم يسخط على من فعلها- فقال يخاطب المسلمين: "إنه كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت"٢.

وانصرفت قريش بعد أن دفنت قتلاها، ولم تشأ أن تهاجم المدينة فتحتلها وتقضي عليها، مكتفية بأن تنال من ثمار النصر أقربها وأيسرها على ما جرت عليه العادة عند القبائل العربية في حروبها.

وانصرف المسلمون إلى المدينة وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن دفنوا قتلاهم والحزن يثقل نفوسهم، لما أصابهم من هزيمة بعد نصر ومن مذلة وهوان بعد ظَفَر عزيز لا ظفر مثله؛ وذلك لاختلافهم ومخالفتهم أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- وانبعاثهم وراء عرض الدنيا في الوقت الذي يقاتلون فيه لإعلاء الحق وإقرار المثل العليا.

وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهزيمة أن يعالج الموقف من نواح متعددة: عليه أولًا أن يعالجه من الناحية النفسية عند المسلمين، وقد أوشكت الهزيمة أن تقتل الروح المعنوية فيهم، وأوشك الشعور بالإثم أن يذل نفوسهم، ويصغر أقدارهم في نظر أنفسهم؛ فلقد خالفوا رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- وكبار المسلمين، وأصروا على الخروج للقاء العدو وهم يتحرقون شوقًا للقائه وإلحاق الهزيمة به كما أذاقوه إياها يوم بدر، وها هم الآن يذوقون مرارة الهزيمة نتيجة عصيانهم وفشلهم، ولقد كانوا يتمنون الموت ويطلبون الشهادة قبل لقاء العدو، فلما عاينوا الموت فروا منه وازورت نفسهم عن الشهادة، بل إن بعضهم يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} [آل عمران] ولقد كانوا


١ ابن هشام ٣/ ٤١.
٢ نفسه ٤٥.

<<  <   >  >>