للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والواقع أن هذه الجبهة كانت تحمل في ثناياها عوامل التفكك، فقد كانت أغراض الحلفاء غير متفقة، فقريش تريد أن تقضي على الدولة اليثربية بالقضاء على محمد والمسلمين، وغطفان إنما قدمت مأجورة فقد وعدها اليهود ثمار سنة من خيبر١ والقبائل الأخرى جاءت مشايعة وليس لها غرض واضح، واليهود كانوا يبغون استعادة سلطانهم بالمدينة وليس من غرضهم أن تقع يثرب في يد قريش أو إحدى القبائل الكبيرة، وإلا جرُّوا على أنفسهم خصمًا جديدًا قد يطمع في الاستيلاء على هذه المنطقة الخصيبة، ومن هنا كان التفكك بين صفوف الأحزاب، فوق أن وحدة القيادة لم تكن تامة فكل زعيم على جماعته لا تخضع خضوعًا مطلقًا لقيادة أبي سفيان. فما كادت عوامل الشك والريبة تأخذ طريقها إلى قلوب الزعماء حتى انفض جمعهم، وأعانت الطبيعة على انهزامهم وتراجعهم، فقد كان الجو شتاء والبرد قارسًا، وهَبَّتْ عاصفة شديدة وهطلت أمطار لا عهد لهم بمثلها، فانجفلوا جميعًا راجعين لبلادهم٢.

وبذلك نجت المدينة من خطر شديد كان يتهددها، وكان تراجع الأحزاب هزيمة تمت بدون قتال، والهزيمة آتية لا عن طريق تحطيم الجيوش المعادية وإنما عن طريق تحطيم وحدتها وعن طريق بذر الشك بين رجالها، حتى لم يعد في الإمكان بعد هذا اليوم أن يتجمع خصوم المدينة على هذه الصورة، فقد أصبحت قريش تشك في ولاء القبائل العربية، كما أصبحت القبائل نفسها تشك في قدرة قريش وفي إمكانها التغلب على المسلمين، وقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك تمام الإدراك حين قال: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا ونحن نسير إليهم" ٣، كما أدرك رجاله هذا الموقف كذلك، ويتجلى ذلك في قول سعد بن معاذ زعيم الأوس الذي جرح في هذه المعركة: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخروجوه، اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرَّ عيني من بني قريظة"٤، وحين رجعت الأحزاب حاصر النبي بني قريظة حتى استسلموا فأوقع بهم عقوبة الإعدام جزاء خيانتهم العظمى.


١ السمهودي ١/ ٢١٤. هيكل: حياة محمد: ١٣٦. ولفنسون ١٤٣.
٢ ابن هشام ٣/ ٢٥٠، ٢٥١.
٣ البخاري ٥/ ١١٠.
٤ نفسه ١١٢، ١١٣. ابن هشام ٣/ ٢٤٤.

<<  <   >  >>