للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أتاح صلح الحديبية للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوجه نظره إلى إكمال خطته في إقرار الأمن للمسلمين في جزيرة العرب، والقضاء على كل عناصر المقاومة التي تقف في سبيل توحيد الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام ثم الاتجاه بالدعوة إلى العالم الخارجي، إلى المجال الإنساني؛ فإن محمدًا لم يُرسَل للعرب وحدهم، وإنما أرسل بشيرًا ونذيرًا للناس كافة.

وقد أظهر محمد من بُعد النظر ودقة التقدير ما تفوَّق به على خصومه، وما فاق به تفكير أصحابه على السواء، فإن شروط عهد الحديبية وإن بدت لأول وهلة في مصلحة قريش، فإن الأيام ما لبثت أن كشفت عن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذهب فيها بالنصيب الأوفر، وحقق فيها وبواسطتها أهدافه الكبرى، فقد أتاح هذا العهد لمحمد والمسلمين أن يدخلوا مكة في العام القادم آمنين مطمئنين، وأخلت لهم قريش البلد الحرام١، وقد كان لهذا أثره الخطير في مكة نفسها. فإن أهلها رأوا من تضامن المسلمين وترابطهم وتعاونهم وتعاطفهم وحسن نظامهم والتفاهم بينهم واقتدائهم بنبيهم، ما جعلهم يدركون أن مثل هذه الجماعة لا يمكن الوقوف في وجهها، وليس من أمل في التغلب عليها، حتى لقد كانت عمرة القضاء قضاء تامًّا على روح العناد والمقاومة في قريش، وحتى لقد أدرك عقلاؤها أنه من الخير الانضمام إلى محمد، يتمثل ذلك في إسلام خالد بن الوليد، وخالد رجل له مكانته العظيمة في قريش فهو بطلها المعلم وفارسها في يوم أحد. وكان خالد قائدًا بصيرًا يدرك أين تكون الكفة الراجحة، ولقد أدرك خالد هذا في عمرة القضاء فلم يلبث أن أعلن إسلامه. وبعث بهداياه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-٢ ولم يسلم خالد في صمت بل قال على ملأ من قريش: "لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بشاعر ولا ساحر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق على كل ذي لب أن يتبعه٣. ولقد هم أبو سفيان أن يثور بخالد ويؤلب قريشًا لقتله، فقال عكرمة بن أبي جهل: "مهلًا يا أبا سفيان، أنتم تقتلون خالدًا على رأي رآه، وهذه قريش كلها قد بايعت عليه. والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم٤.


١ ابن هشام ٣/ ٤٢٤- ٤٢٧.
٢ الواقدي ٣١١.
٣ نفسه.
٤ ابن هشام ٣/ ٣١٩.

<<  <   >  >>