للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرجال دليلًا على مدى انتشار الإسلام بين هذه القبائل انتشارًا كبيرًا فاق كل عدد وصل إليه المسلمون في السنوات السابقة منذ البعثة إلى عهد الحديبية، ثم إن الشرط الأخير الذي أرضت به قريش غرورها والذي غضب من أجله المسلمون وعارضوه، ما لبث أن ظهر أنه في غير مصلحة قريش وأنه كان وبالًا عليها والرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قبله كان سياسيًّا بعيد النظر، وكان حكيمًا عالمًا بما يصلح الدولة في داخلها، فإنه ليس من مصلحة الدولة أن يكون بين صفوفها من لا يؤمن بمبادئها، ومن كان هواه مع أعدائها، وكانت قريش قصيرة النظر حين حبست بعض المسلمين في مكة ومنعتهم من الهجرة وعملت على فتنتهم عن دينهم بالقوة؛ فقد استمسك هؤلاء بدينهم برغم تعذيب قريش، وكانوا نقطة ضعف داخل الدولة المكية، كانوا طابورًا خامسًا -كما نعبر عنه في عصرنا الحديث- وكانوا إلى جانب ذلك يعذبون ضمير أهل مكة ويشعرونهم بالإثم دائمًا، وخصوصًا إذا قدرنا قوة عصبية الأرحام، وذوي القربى، وإذا كان الزعماء يرضون هذا لمصلحة الدولة كما ظنوا ويرغمون العامة على قبول عملهم وتساعدهم على ذلك حالة الحرب، فإن عواطف الناس كانت في غير هذا الصف، وخصوصًا بعد أن أشاع صلح الحديبية جوًّا من السلم وأتاح للعواطف أو الرأي أن تنفس عن نفسها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى أن مصلحة دولته تقتضيه أن يتخلص من خصوم مبدئها أو على الأقل لا يتمسك بهم بين صفوفه؛ لذلك وافق على ألا يرجع إليه من يخرج من صفوفه إلى العدو.

على أنه لم يخرج من صفوف المسلمين أحد إلى مكة، وخرج من صفوف قريش بعض المسلمين فارين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما ردهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة كانوا وبالًا عليها، وأصدق شاهد على ذلك قصة أبي بصير بن أسيد حليف بني زهرة، فإنه بعد صلح الحديبية فر إلى المدينة، فكتب أولياؤه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلبون رده، وأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين يعودان به؛ فسلمه النبي للرجلين وفاء بشروط الصلح، فلما كان في بعض الطريق احتال على الرجلين حتى أخذ من أحدهما سيفه فقتله به، وفر الآخر إلى المدينة ولحق به أبو بصير، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، وفت ذمتك، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل أمه، محش حرب لو كان معه رجال" فخرج أبو بصير حتى نزل بمكان يقال له العيص على ساحل البحر، وكان طريق قريش إلى الشام، فسمع به من كان بمكة من المسلمين فلحقوا به، حتى كان في عصبة من المسلمين قريب من ستين أو سبعين رجلًا وكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه، ولا يمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت فيهم قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

<<  <   >  >>