وحين ضاق اليهود ذرعًا بمحمد فكروا في أن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلته قريش عن مكة، فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا إلى بيت المقدس وكان مقامهم به، وأنه إن يكن رسولًا حقًّا فجدير به أن يصنع صنيعهم وأن يعتبر المدينة وسطًا في هجرته بين مكة وبيت المقدس، لكن محمدًا أدرك ما يرمون إليه، وأوحى الله إليه على رأس سبعة عشر شهرًا من مقامه بالمدينة أن يجعل قبلته المسجد الحرام بيت إبراهيم وإسماعيل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة] .
وأنكر اليهود ما فعل، وأدركوا أن هذا العمل ينطوي على موقف خطير. فإن اتخاذ القبلة إلى بيت الله الحرام بمكة فيه جذب كبير لقلوب العرب، فإن الكعبة محط أنظارهم وموضع تقديسهم وإكبارهم فإذا اتخذها محمد قبلته كان في ذلك إرضاء للروح العربية، وقد يؤدي هذا إلى انجذاب العرب نحو الدين الذي يتخذ قبلتهم قبلته، وفيه كذلك تقرب لمكة التي كانت في عداء مع محمد، وقد يؤدي هذا إلى تقارب وجهة النظر بين قريش والنبي -صلى الله عليه وسلم- فيلتئم شمل قريش ومن خلفها العرب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضيع اليهود في غمرة هذا الاجتماع؛ لذلك أنكروا هذا وحاولوا فتنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى بقولهم: إنهم يتبعونه إن هو رجع إلى قبلته الأولى، فنزل القرآن الكريم:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[البقرة] .
في هذا الوقت الذي اشتد فيه الجدل بين محمد واليهود، وفد على المدينة وفد من نصارى نجران عدتهم ستون راكبًا، فيهم أشرافهم ومن يئول إليه أمرهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، ولعل هذا الوفد إنما جاء إلى المدينة في هذا الوقت طمعًا في أن يزيد الخلاف شدة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- واليهود، حتى يبلغ به حد العداوة، فيريح النصرانية المتاخمة في الشام واليمن من دسائس اليهود