للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعدوان العرب على السواء، واجتمعت الأديان الثلاثة الكبرى بمجيء هذا الوفد وبجداله النبي -صلى الله عليه وسلم- وبقيام ملحمة كلامية عنيفة بين اليهودية والمسيحية والإسلام.

فأما اليهود فكانوا ينكرون رسالة عيسى ومحمد إنكارًا فيه عنت وفيه مكابرة، ويزعمون أن عزيرًا ابن الله. وأما النصارى فيقولون بالتثليث وبألوهية عيسى، وأما محمد فيدعو إلى توحيد الله توحيدًا مطلقًا، وأن الرسالات جميعًا تمثل وحدة روحية واحدة من أزل الوجود إلى أبده، وكان اليهود والنصارى يسألونه عمن يؤمن بهم من الرسل فيقول كما نزل القرآن:

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة] وينكر عليهم أشد الإنكار كل ما يلقي أية شبهة على وحدانية الله، ويذكر لهم أنهم حرفوا الكلم مما في كتبهم عن مواضعه، وأنهم غيروا مبادئ الرسل والنبيين الذين يقرون لهم بالنبوة، وأن ما جاء به موسى وعيسى ومن سبقهم لا يختلف في شيء عما جاء هو به؛ لأن ما جاءوا به جميعًا هو الحقيقة الخالدة التي تتكشف لكل من نزه نفسه عن الخضوع لغير الله، ونظر في الكون نظرة سامية فوق أهواء الدنيا مجردة عن الخضوع الأعمى للأوهام ولما وجد عليه آباءه وأجداده، ثم يلقي عليهم الصيغة التي أنزل الله عليه:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنَ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران] .

فماذا يمكن لليهود والنصارى أن يقولوا في هذه الدعوة؛ فأما النفس التي كرمت بالعقل، وأما الروح الخالصة الصادقة فلا تستطيع إلا أن تؤمن بهذا دون غيره، لكن للحياة البشرية جانبها المادي الذي يجعل الإنسان يضعف لإغراء المادة فيخضع لها، هذا الجانب المادي المصور في المال والجاه والسلطان وفي كاذب الألقاب هو الذي جعل أبا حارثة أكبر نصارى نجران علمًا ومعرفة يدلي إلى رفيق له بأنه مقتنع بما يقول محمد، فلما سأله رفيقه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ كان جوابه: "ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى"١.


١ ابن هشام ٢/ ٢٠٥.

<<  <   >  >>