للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد قدم على المدينة أحد سادات بني عامر، وهو أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، فعرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، فلم يسلم، ولكنه لم يظهر للإسلام عداوة. وقال: "يا محمد، لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. وخاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه من أهل نجد وخشى أن يغدروا بهم كما غدرت هذيل، لكن أبا براء قال: "أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا بأمرك". وكان أبو براء رجلًا مسموع الكلمة في قومه لا يخشى أحدٌ أجاره أن يعتدى عليه، ولم يعرف عنه الغدر ولا الخيانة ولا إخفار الذمة. وكان صادقًا في وعده، لكن سيدًا آخر من سادات بني عامر وهو عامر بن الطفيل ابن أخيه أخفر عمه، واستعدى على وفد المسلمين بطونًا من بني سليم، بعد أن رفضت بنو عامر إخفار عمه، فأحاطوا بالمسلمين وقتلوهم إلا رجلًا منهم هو عمرو بن أمية الضمري أسره عامر بن الطفيل ثم خلى عنه حين علم أنه من كنانة١.

كان لهذين الحادثين وقع أليم في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه إلى زيادة الحيطة والحذر في معاملة القبائل، واتخاذ الشدة معها، إذ إن مثل هذه الأمور لو تكررت، استخفت العرب بشأن المسلمين وتجرأت القبائل عليهم، وعند ذلك يرفع النفاق رأسه في المدينة، ويجد اليهود لهم مجالًا لإيقاع الفتنة والائتمار بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبالمسلمين، وربما جرَّ ذلك إلى تكتل أعدائهم عليهم في الخارج، نتيجة لروح الاستخفاف التي تثيرها أمثال هذه الجرأة على المسلمين، وقد كاد هذا يتم فعلًا، فقد تآمر المنافقون واليهود في المدينة على حياة الرسول وإثارة الحرب الداخلية في المدينة مما أدى إلى إجلاء بني النضير كما قدمنا.

ولهذا فإنه حين ذهب بعد ذلك إلى وادي بدر تنفيذًا لوعد أبي سفيان بالحرب يوم أحد، ورأى من بني ضمرة شيئًا من التردد في الاستمرار في حلفهم معه، أظهر لهم الشدة والقوة، فقد جاءه مخشى بن عمرو الضمري -وهو الذي وادعه من قبل على بن ضمرة- وهو منتظر قدوم قريش فقال: "يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ " وأدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ما وراء هذا التساؤل فقال: " نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك". وأعاد هذا الرد إلى الرجل صوابه، ورأى ما في هذا الإنذار من تصميم من النبي -صلى الله عليه وسلم- على إقرار هيبة المسلمين. فقال: "لا والله يا محمد، ما لنا بذلك من حاجة"٢.


١ ابن هشام ٣/ ١٨٣.
٢ ابن هشام ٣/ ٢٢٢.

<<  <   >  >>