الروم، وإن كانوا قد خضعوا لهم؛ فإن هذا الخضوع ليس لمصلحة العرب وإنما هو لمصلحة الروم في المقام الأول، ولقد بدا ذلك واضحًا حين غير الروم سياستهم نحو هذه المملكة العربية حين لم يعودوا في حاجة شديدة إلى خدماتها، وإذا كان أمراء الغساسنة يصانعون الروم لمصلحتهم كأمراء فإنه يجب التفرقة بين مصالح الأمراء ومصالح الشعوب إذا فضل الأمراء مصالحهم، ولقد أظهر الحارث الغساني من الحماس ما لم يظهره هرقل نفسه حين أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابه إليه، كما أن الروم قتلوا الأمير الغساني الذي أسلم، وقتل شرحبيل بن عمرو حاكم البلقاء رسول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله إلى بصرى؛ لذلك رأى النبي -صلى الله عليه وسلم أن يؤدب من غدر بدعاته، وفي الوقت نفسه يشعر العرب في هذه الجهات بقوة المسلمين، قوة تحفزهم على الانضمام إليهم بدافع العروبة، فجهز حملة من ثلاثة آلاف مقاتل على رأسهم مولاه زيد بن حارثة، فإن قتل فالقيادة لجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة الأنصاري، وخرج في الجيش خالد بن الوليد متطوعًا، وسارت الحملة إلى غايتها على حدود الشام، وقد خرج الناس يودعون الجيش ومشى النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه معه حتى ظاهر المدينة، يوصي قواده ألا يقتلوا النساء ولا الشيوخ ولا الصبيان، وألا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار.
وكانت خطة الجيش أن يأخذ الأعداء على غرة، لكن أنباء مسيره كانت قد سبقته، فقام عمال هرقل بجمع القبائل للتصدي للمسلمين، وأمدهم هرقل بقوات من عنده، وتذهب بعض الروايات إلى أنه تقدم بقواته التي يبلغ عددها مائة ألف من الروم حتى نزل مآب من أرض البلقاء؛ ليكون قريبًا من جيوش أمرائه؛ ليمدها بالمعونة إذا لزم الأمر.
وتقدر المصادر العربية قوة الجيش التي اشتبكت مع المسلمين بمائة ألف، وهذا رقم كبير، لا يمكن الموافقة عليه، وكل ما يمكن تصوره أن قوة العدو كانت أكبر من قوة المسلمين أو أنها كانت أضعافها. فإن الحملة الإسلامية كانت مكونة من ثلاثة آلاف وأن أنباء مسيرها كانت معروفة، فلا يمكن أن يوجه إليها الروم مثل هذا العدد الحاشد من الجيوش، على أن هذه الأعداد الضخمة لم تستخدمها بيزنطة في قتالها مع الفرس وهم أقوى من العرب والصراع معهم كان صراعًا كبيرًا وخطيرًا، ولم يستخدم الروم هذه الأعداد إلا فيما بعد، عندما اشتبكوا مع الدولة الإسلامية اشتباكًا حقيقيًّا خطيرًا ثم إن عدد قتلى المسلمين كان قليلًا مما يظهر عدم كبر قوة العدو.