على كل حال تقدم الجيش الإسلامي حتى بلغ معان، وهناك علم المسلمون بجموع العرب والروم لهم، فترددوا في الإقدام أو الانتظار حتى يكتبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فإما أن يمدهم بالرجال وإما أن يأمرهم بأمره فيمضون له، وكاد هذا الرأي يسود لولا أن تقدم عبد الله بن رواحة، وكان إلى جانب شجاعته وفروسيته شاعرًا، قال: يا قوم!! والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة.
وامتدت عدوى النخوة من الشاعر المؤمن الشجاع إلى الجيش كله، فقال الناس: صدق ابن رواحة، ومضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع العرب والروم بقرية يقال لها: مشارف، فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة؛ لأنهم رأوها خيرًا من مشارف لحصانتها، وعند مؤتة حدثت المعركة التي أبدى فيها المسلمون غاية الشجاعة.
ما من شك في أن قوة العدو كانت أضخم كثيرًا من قوة الجيش الإسلامي، وإن لم تبلغ العدد الذي ذكره الأخباريون، وكان التكافؤ منعدمًا بين القوتين من حيث العدد ومن حيث عدة الحرب، ومع ذلك فقد أبدى المسلمون من الشجاعة وقوة الإيمان ما أذهل العدو نفسه وحال بينه وبين الالتفاف بالمسلمين وسحقهم، وإلا فأين يقع الآلاف الثلاثة من الجند من الخمسين ألفًا أو الستين أو حتى العشرين.
حمل زيد براية النبي -صلى الله عليه وسلم- حملة صادقة واندفع في صدر العدو، وهو موقن بأن ليس من موته مفر، ولكنه موقن بأن الموت هو الشهادة في سبيل الله، وأن الشهادة هي الجنة، وليس الاستشهاد ودخول الجنة دون الظفر والنصر مكانًا، وحارب زيد حرب المستميت حتى مزقته رماح الأعداء، فتناول الراية جعفر بن أبي طالب وهو فتى الثالثة والثلاثين، تعدل وسامته وشجاعته واندفع في غمار العدو، حتى إذا أحيط به نزل عن فرسه فعقرها وقاتل راجلًا، ولكن للشجاعة مهما عظمت حدود بالنسبة للكثرة الساحقة، وخر جعفر بعد أن قطعت يداه وقدَّ نصفين دون أن يسلم الراية، فتناولها عبد الله بن رواحة ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال: