إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنة
ثم نزل فتقدم فقاتل فقتل:
ثم تناول الراية ثابت بن أرقم الأنصاري فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت! قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فأخذ الراية خالد، وكان الموقف يحتاج حقًّا إلى مواقف خالدية، لقد كان خالد قائدًا ماهرًا ومحركًا للجيوش لا نظيير له. أُلْهِم القيادة إلهامًا، فهو يستعين في مواقفها بكل ما عرفت الحرب من فن يستخدمه على السليقة وعلى البصيرة الملهمة فدار بالجيش دورة، ضم بها صفوفه، ثم قاتل به في غير اندفاع ومع ذلك في غير تراجع، وكان بذاته قدوة صالحة حتى لقد تكسر في يده تسعة سيوف، ومع ذلك لم يعرض رجاله لرماح العدو ولا لسيوفه تحيط بهم وتعمل فيهم، واستطاع أن يحتفظ بتوازن المعركة حتى جاء الليل، وفي الصباح عدَّل جيشه تعديلًا جديدًا، فجعل الميمنة ميسرة وجعل الميسرة ميمنة، وجعل المقدمة ساقة، والساقة مقدمة، ووضع في خلف الجيش عددًا من الرجال بالجمال والخيول يحدثون جلبة شديدة ويثيرون النقع ليوهم العدو أن مددًا قد جاءه، وأصبح الروم على تعبئتهم السابقة يرون وجوهًا غير الوجوه، ويرون خلف الجيش الإسلامي نفعًا ينبئ عن مدد جديد سوف يدخل المعركة.
وإذا كان المسلمون على قلتهم قد فعلوا ما فعلوا بالأمس؛ فكيف هم اليوم وقد جاءهم المدد وازداد العدد. لقد أحجم الروم عن الهجوم، وكذلك لم يهاجمهم خالد فقد كان يريد أن يخرج من المعركة غير المتكافئة بجيشه سليمًا، ويرعب العدو حتى لا يلاحقه في تراجعه، فلما اطمأن أن نجاح خطته تراجع بقوته وبَعُدَ بها حتى صارت في مأمن ثم عاد بالجيش إلى المدينة١.
استنكر المسلمون على الجيش أن يعود من غير أن ينتصر، وعيروا رجاله حتى أحرجوا بعضهم، وقالوا لهم: يا فرار. فررتم في سبيل الله؟ ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- القائد البصير الذي يدرك معنى النصر الحقيقي، واسى الجيش ورد تعيير المسلمين، وقال:"بل هم الكرار إن شاء الله". ومع ذلك فقد وجد على أصحابه أشد الوجد، وكان عليه أن