لشخصيتها وعنوانًا على ثقافتها العامة وتقاليدها، فالدين الوثني الذي كانت قريش تحميه كان عنوانًا للقومية العربية ورمزً لها، ولهذا كان تسليم قريش وتحولها إلى الإسلام أمرًا بالغ الأهمية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحس بهذا تمام الإحساس حين مال إلى السلم وتجنب أن يريق دماء المكيين مهاجمًا ومعتديًا؛ بل إنه حين انتصر على قريش لم يتبع معها ما يتبع عادة مع المغلوبين، بل قبل القرشيين في صفوفه دون شرط، وعفا عنهم وسماهم الطُّلَقَاءَ ومنحهم أعطيات من غنائم حنين وأراد بهذا أن يتألف قلوبهم فسموا: بالمؤلفة قلوبهم وهاتان التسميتان تدلان دلالة ظاهرة على سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم.
فلما انضمت مكة في العام الثامن الهجري في معسكر النبي -صلى الله عليه وسلم- اقترن التسليم بتحطيم الأصنام كما قلنا وهذا التحطيم في ذاته عمل له معنى خطير، فهو تحطيم للدين القديم والنظام القديم، وتسامع الناس بهذا الفتح وهذا التحطيم وتحدثوا به، وكان لهذا نتائج بعيدة المدى، كانوا يتسامعون أن قريشًا مالت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصبحت من حزبه، وأصبح الحجاز كله بذلك لرجل واحد، وعرفت القبائل أن تغييرًا سياسيًا قد طرأ على النظام القديم، وتسامعت في نفس الوقت بأن هذا النبي الجديد قد حطم الآلهة ولم ينله أذى؛ فكان بقاؤه بعد تحطيم الأصنام يحمل في ذاته نوعًا من الدليل على صدق النبوة في نظر هؤلاء الوثنيين، ولهذا سارعت القبائل المختلفة إلى الاتصال السياسي بهذا النظام الجديد وسعى بعضها إلى الاتصال السياسي والديني في نفس الوقت بهذا الرجل الذي ظهر في الحجاز وخالوه ملكًا ظهر على صورة نبي فتوافدت الرسل ممثلة للقبائل على يثرب في العام الثامن والتاسع وبعض العاشر، حتى لم تبق قبيلة إلا أرسلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفدًا يعقد معه عهدًا١. هذه الوفود هي الصدى الملموس لنهاية الصراع بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكة على هذا النحو السعيد.
ثم إن هذه الخطوة الجديدة التي تحققت بقدوم الوفود أتاحت للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتجه لتحقيق خطوة أخرى كبيرة، فقد بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى ما وراء الحجاز، إلى شبه الجزيرة العربية كلها، وكان هذا التحول مقرونًا بالصدى الهائل الذي تجاوب في جزيرة العرب بعد فتح مكة.