ومكة والطائف، غير أن المرتدين بطبيعة حركتهم ولحسن حظ يثرب لم يكونوا ليتضامنوا فيما بينهم، فالأزمة في الواقع ترجع إلى النزوع إلى الاستقلال وإلى رفض التضامن، وكانت الهزيمة التي أصابت المرتدين آخر الأمر دليلًا على أن النظام الجديد قد أصبح قويًّا جارفًا، وعلى أن حركة الردة برغم عنفها وشمولها لم تستطع أن تنال من النظام الجديد شيئًا، ولولا أن المدينة كانت تمثل فكرة جديدة وتمثل ما انطوت عليه في الحقيقة نفوس العرب، ولولا أنها كانت تمثل القومية التي كانت حائرة غامضة في الجاهلية، ولولا أن جيش المدينة كان أقوى من كل قبيلة أو قبيلتين على حدة؛ لكانت تلك الأزمة نهاية للنظام اليثربي النبوي.
واستطاعت جيوش المدينة أن تظهر عزمها على تأييد النظام الجديد وأن ترد القبائل إلى الطاعة، بل إن جيوش المدينة قامت إلى جانب قمع المرتدين بعمل آخر إضافي في نفس الوقت، هو تطبيق قانون براءة تطبيقًا تامًّا، أو هو بحسب اللفظ الوارد في المصادر: استبراء رسمي من الدين الوثني، وكان الاستبراء هدفًا مهمًّا من الأهداف التي وضعتها جيوش الردة لنفسها، فالمدينة كانت تعلم أن جيوشًا لم تطأ من قبل من أقاليم الجزيرة إلا الحجاز، وأن نفوذها فيما وراء ذلك سطحي، وأن معظم القبائل لم تتصل بالمدينة،وإلا عن طريق المواثيق التي أبرمتها في عام الوفود وعن طريق عمال الصدقات الفقهاء الدعاة الجباة، فكانت الردة في الحقيقة فرصة لتطبيق الاستبراء تطبيقًا فعليًّا وإظهار قوة الجيش اليثربية، ولم تكن المدينة قد أوتيت تلك الفرصة من قبل، فقد كانت عاجزة عن مثل ذلك وإلا وقعت في حرج وظهرت بمظهر المعتدي وجرحت كبرياء القبائل.
ونحن إذا قرأنا الكتب التي كتبها أبو بكر وزود بها جيوش الردة، وجدنا فيها نية الاستبراء ظاهرة ووجدنا فيها لفظ الاستبراء الدال على أن أبا بكر كان يريد أن يطبق إعلان براءة فلا يصح أن نهمل الصلة بين لفظ الاستبراء الوارد في كتب أبي بكر وبين لفظ براءة الوارد في سورة براءة، ثم إننا نجد بعض زعماء الردة يحتجون على المدينة حين حاربتهم بأنهم لم يكونوا دخلوا الإسلام من قبل حتى يعدوا مرتدين ويطلبون لذلك أن يطبق عليهم قانون الاستبراء لا قانون الردة؛ فإذا نظرنا إلى الردة من هذه الناحية عرفنا أنها كانت أزمة ضارة نافعة، ثم إن مهمة المدينة أثناءها كانت يسيرة إلى حد ما؛ لتفرق الأعداء وعدم تضامنهم إطلاقًا، ولوجود جماعة في كل قبيلة موالية للمدينة، فهذه الأزمة لم تكن تحتاج في الواقع إلا إلى قدر من الإيمان وكان أبو بكر كفؤًا لها من هذه الناحية.