في بداية القرن السادس الميلادي، كانت مكة مدينة ذات كيان مالي وتجاري مستقل، ومركز دينيّ مرموق أقيم حول الكعبة التي كانت محط أنظار كثير من الحجاج الذين كانوا يؤمونها لزيارة البيت الحرام والتقرب للأصنام المنصوبة هناك. وكان أهل مكة قد أجروا الترتيبات المفصلة التي كانت تتضمن سلامة طرق الحج المؤدية إلى مدينتهم، وبيع المؤن والتجهيزات للوافدين إليها, وتكفل حفظ النظام ومراعاة الآداب العامة أثناء تأدية الشعائر الدينية عند الكعبة. ولما كانت العناية بالحج وتصريف المعاملات التجارية هما المهنتين الرئيسيتين عند أهل مكة؛ فإن حياة البلد كانت تحت طبقة من المنتفذين الأكفاء، رجال لم يؤمنوا بالعنف، واعتمدوا على حل كل المشاكل بالطرق السلمية.
وظلت مكة مدينة ذات كيان مالي وسياسي مستقل؛ لأن شبه الجزيرة العربية لم تقع في يوم ما -بصورة فعالة- تحت حكم سلطة مركزية, فإن تأثير البيئة الجغرافية كان يقف دائمًا في وجه نمو الإشراف المركزي في شبه الجزيرة العربية. وكانت الخصائص الأساسية لتلك البيئة، هي العلاقات المزعزعة بين مجتمع متوطن يسوده الاستقرار وآخر لا يزال بدويًّا رحالًا، والتغلغل المتداخل بين ذينك المجتمعين. فإن الجماعات التي تم استيطانها تتأثر -إلى حد كبير- بما يحدث لجيرانها من البدو الرحل، وقد انحدرت هذه الجماعات المستوطنة -عادة- من تلك القبائل الرحل التي رأت أن تستوطن يومًا ما وكانت بعد أن تستوطن بصفة تجار أو مزارعين تحاول فرض سيطرتها عن جيرانها من القبائل المتبدية- بالقوة أو الاستمالة- محاولة منها اتخاذ بعض الإجراءات لحفظ السلم والأمن, وربما نجحت في ذلك أحيانًا.
ومن المهم أن نذكر أن البدو -وهم يستقرون ويستوطنون ويتخذون لهم نمطًا جديدًا من الحياة- كانوا يحتفظون بالكثير من عاداتهم القديمة ويتمسكون بها، ولم يفارقهم حنينهم إلى حياتهم الصحراوية الأولى، فتراهم يميلون إلى الخروج إلى