للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإنه من العسير معرفةُ تاريخ قيامها وتحديد الزمن الذي أصبح فيه هذا المكان بلدًا، وأكثر الظنّ أنه يرجع إلى ألوف من السنين مضت، وإذا كان بدء سكنى هذا الوادي يرجع إلى أيام إبراهيم وإسماعيل، فإن ذلك يعني القرن التاسع عشر قبل الميلاد١.

والثابت أن واديها اتّخذ من قبل أن تبنى موئلًا لراحة رجال القوافل القادمة من الشمال والجنوب، بسبب ما كان به من العيون، فعلى طول الطرق التجارية عبر الصحراء وجدت بضعة أماكن مبعثرة اتخذتها التجار المسافرون موئلًا لراحتهم، وبالتدريج أصبحت منازل الراحة هذه مستودعات للتجارة، وصار بعضها مقامًا للهياكل والمحاريب يتابع التاجر في حمايتها تجارته، ويلجأ الحاج إليها لالتماس العون منها، ووادي مكة إحدى هذه المحطات التي جعل منها رجال القوافل مضارب لخيامهم سواء منهم القادمون من اليمن إلى فلسطين أو القادمون من فلسطين إلى اليمن٢.

وإذا كان من الثابت -كما ورد في القرآن الكريم- أن إبراهيم وإسماعيل قد أقاما البيت الحرام في واديها، فإنه من الراجح أن إسماعيل هو أول من اتخذها مقامًا وسكنا، بعد أن كانت مجرد محلة للقوافل وسوقًا لتبادل التجارة بين الآتين من الشمال والآتين من الجنوب.

وتجرى رواية الأخباريين إلى أن إبراهيم حمل زوجه هاجر وابنهما إسماعيل نحو الجنوب حتى وصل إلى هذا الوادي الذي كان مضرب خيام القوافل، ثم تركهما فيه وعاد من حيث أتى، بعد أن ترك لهما ما يتبلغان به من التمر والماء، واتخذت هاجر لها عريشا إلى جوار ربوة حمراء بهذا الوادي- لعلها كانت مقدسة يتبرك بها رجال القوافل٣- آوت إليه هي وابنها، فلما نفد الماء وكادا يهلكان عطشًا ذهبت تبحث عنه، وفي خلال هذا البحث انفجرت عين زمزم، فأقامت عليها وابنها. ترد عليهما القوافل في رحلاتها فينالان من العيش ما يكفيهما. على أن زمزم التي تفجر ماؤها قد استهوت بعض القبائل للمقام على مقربة منها. وتجري بعض الروايات بأن قبيلة جرهم


١ جورجي زيدان، العرب قبل الإسلام ١٨٨.
٢ هيكل، حياة محمد ٨٤.
٣ الأزرقي ١/ ٦ اليعقوبي ٣/ ١٦ ابن كثير ١/ ١٥٥. الطبري ١/ ١٧٨.

<<  <   >  >>