هذا التفكير من إبراهيم، وإلى إلهامه فكرة بناء البيت في هذا المكان الذي من المحتمل أن يلقى فيه استجابة من المقيمين والغادين الرائحين. {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}[الحج] .
على أن إبراهيم لم يكن ليحمل زوجه وابنه إلى مكان قفر لا زرع فيه إلا لسبب واضح لديه محدد عنده، وهو القيام بأمر العبادة عند هذا البيت الذي ينوي أن يقيمه لله، والتبشير بهذا الدين الذي بعث به. وتشير الآية القرآنية:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم] إلى ذلك في صراحة واضحة، كما تشير إلى ما يرتجيه إبراهيم لهذه المحلة التجارية من نمو وازدهار على مرِّ الأيام؛ نظرًا لموقعها المتوسط ولحصانتها بالنسبة للنازل والمقيم وإبراهيم الرّحّالة الخبير. لا شكّ كان عالمًا بقيمة المواقع وأهميتها لطول ما تمرّس به من الرحلات والأسفار. ولقد كرّر زيارته -كما تجري الروايات- إلى زوجة وولده في المكان، للاطمئنان على سلامة تقديره، وليرقب نموّ هذه النواة التي وضعها للإقامة في هذا الوادي الحصين، فلما اطمأنّ إلى أنها نبتت وامتدّت جذورها، تعاون هو وابنه على بناء البيت الحرام {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة] . ولما شهد إبراهيم قيام البلد الذي كان يرجو قيامَه حول البيت، واطمأنّ إلى أن عمله قد آتى ثماره، دعا ربه {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}[إبراهيم] وهكذا يمكن أن نتصوّر قيام مكةَ في هذه البقعة على ما يمكن أن نستنتج من آيات القرآن وكما تجري به الروايات.