للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثمّ اعلم أنّ التلميح منه ما هو واضح الإشارة كما قدّمنا، ومنه ضرب يشبه اللغز، ومن لطائفه قصّة الهذلي مع المنصور فقد روي أنّه وعده بجائزة فنسي فحجّا معاً ثمّ مرّا في المدينة الشريفة ببيت عاتكة، فقال الهذي: يا أميرالمؤمنين! هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأخوص:

يا دار عاتكة التي أتغزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل

فأنكر عليه المنصور ابتدائه بالخبر من غير أن يسأله، ثمّ أمرّ القصيدة على باله ليعلم ما أراد، فإذا فيها:

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل

فعلم أنّه أشار إلى هذا البيت بتلميحه فتذكّر ما وعده به وأنجزه.

ومثله ما حكي أنّ اباالعلا المعرّي كان يتعصّب للمتنبّي وشرح ديوانه وسمّاه "معجز أحمد"، فحضر يوماً مجلس الشريف المرتضى، فجرى ذكر المتنبّي عن غير قصد، فهضم المرتضى من جانبه، فقال المعرّي: لو لم يكن إلاّ قوله: لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه، فغضب المرتضى وأمر بسحبه وإخراجه وقال للحاضرين: أتدرون ما عنى بذكر هذا البيت؟ قالوا: لا، قال: عنى قول المتنبّي فيها:

وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنّي كامل

ومن هذا القبيل قصّة السري الرفاء مع سيف الدولة ابن حمدان بسبب المتنبّي، فإنّهما كانا من مدّاحه، فجرى ذكر المتنبّي يوماً في مجلس سيف الدولة، فبالغ في الثناء عليه، فقال له السري: أشتهي أنّ الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأُعارضها ويتحقّق بذلك أنّه أركبه في غير سرجه، فقال له سيف الدولة على الفور: عارض لنا قصيدته القافيّة التي مطلعها:

لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحبّ ما لم يبق منّي وما بقي

قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها فلم أجدها من مختاراته لكن رأيته يقول فيها عن ممدوحه:

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثمّ قال له الحق

فعلمت أنّ سيف الدولة إنّما أشار إلى هذا البيت، فأحجمت عن معارضته.

ومن لطيف التلميح قول أبي نؤاس:

وقال أصحيابي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر

ولكنّني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر

ولا خير في ردّ الردى بمذلّة ... كما ردَّه يوماً بسوءته عمرو

يريد عمرو بن العاص لمّا ضربه علي عليه السلام يوم صفّين فرمى نفسه على الأرض وكشف عن سوئته فأعرض علي عنه وقال: عورة المرء حمى. وقد وقع ذلك لبسر بن أرطاة مع علي عليه السلام كما وقع لعمرو، وذلك أنّ بسراً كان مع معاوية بصفّين، فأمره أن يلقى عليّاً عليه السلام وقال له: سمعتك تتمنّى لقائه، فلو أظفرك الله به حصلت دنيا وآخرة، ولم يزل يشجّعه ويمنّيه حتّى رآه فقصده في الحرب والتقيا، فصرعه علي عليه السلام، فكشف بسرٌ عن سوئته فتركته عليّ، وفي ذلك يقول ابن نضر السهمي:

أفي كلّ يوم فارس ذو كريهة ... له عورةٌ وسط العجاجة باديه

يكفّ لها عنه عليٌّ سنانه ... ويضحك منها في الخلاء معاويه

فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا ... سبيليكما لا تلقيا الليث ثانيه

ولا تحمدا إلاّ الحيا وخصاكما ... هما كانتا والله للنفس واقيه

في أبيات أُخر لا حاجة إلى ذكرها.

ومن بديع التلميح ما حُكي أنّ عبد الرحمن بن الحكم قدم على معاوية الشام وكان قد عزل أخاه مروان عن المدينة وولّى سعيد بن العاص، فوجّهه أخوه وقال له: ألقه أمامي فعاتبه لي واستصلحه، فلمّا قدم عليه دخل إليه وهو يعشّي الناس، فأنشأ يقول:

أتتك العيس تنفح في براها ... يكشّف عن مناقبها القطوع

بأبيض من أمّيّة مصرخيّ ... كأنّ جبينه سيف صنيع

فقال له معاوية: أزائراً جئت أم مفاخراً أم مكاثراً؟ فقال له: أيّ ذلك شئت. فقال: ما أشاء من ذلك شيئاً، وأراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عنّ له، فقال: على أيّ الظهر أتيتنا؟ قال: على فرس، قال: ما صفته؟ قال: أجشّ هزيم، يعرض بقول النجاشي له:

ونجي بن حرب سابح ذو غلالة ... أجشَّ هزيم والرماح دواني

إذا خلت أطراف الرماح تناله ... مرته له الساقان والقدمان

<<  <   >  >>