للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فغضب معاوية وقال: أمّا إنّه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب، ولا هو ممّن يتسوّر على جارته، ولا يثب على كنانه بعد هجعة الناس، وكان عبد الرّحمن يتّهم بذلك في امرأة أخيه، فخجل عبد الرحمن وقال: يا أميرالمؤمنين! ما حملك على عزلك ابن عمّك الخيانة أوجبت سخطاً أو برأي رأيته وتدبير أصلحته؟ قال: لتدبير أصلحته، قال: فلا بأس بذلك، وخرج من عنده، فلقي أخاه مروان فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية، فاستشاط غيظاً وقال لعبد الرحمن: قبّحك الله! ما أضعفك! عرضت للرجل بما أغضبته به حتّى إذا انتصر منك أحجمت عنه، ثمّ لبس حلّته وركب فرسه وتقلّد سيفه ودخل على معاوية، فقال له حين رآه وتبيّن الغضب في وجهه: مرحباً بأبي عبد الملك! لقد زرتنا عند اشتياق منّا إليك، قال: لا هاالله ما زرتك لذلك ولا قدمت عليك، فألفيتك إلاّ عاقاً قاطعاً، والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزانا، لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص والصهر برسول الله لهم والخلافة فيهم فوصلوكم يا بني حرب وشرّفوكم وولّوكم فما عزلوكم ولا آثروا عليكم حتّى إذا ولّيتم وأفضى الأمر إليكم أبيتم إلاّ إثرة وسوء صنيعة وقبح قطيعة، فرويداً رويداً! فقد بلغ بنوا الحكم وبنو أميّة نيفاً وعشرين، وإنّما هي أيّام قلائل حتّى يكملوا أربعين ويعلم أمرواني يكون منهم حينئذ، ثمّ هم للحسن بالحسنى وللسوء بالمرصاد. فقال له معاوية: عزلتك لثلاث لو لم تكن منهنّ إلاّ واحدة لأوجبت عزلك: إحداهنّ: إنّي أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تستشفي منه. والثانية: كرهتك لأمر زياد. والثالثة: إنّ ابنتي رملة إستعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها.

قال له مروان: أمّا ابن عامر فإنّي لا أنتصر منه بسلطاني ولكن إذا تساوت الأقدام عليم أين موضعه، وأمّا كراهتي أمر زياد فإنّ سائر بني أميّة كرهوه وجعل الله لنا في ذلك الكره خيراً، وأمّا استعداء رملة على عمرو فوالله إنّه ليأتي عَلَيّ سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما كشفت لها ثوباً، يعرض بأنّ رملة إنّما استعدت عليه طلباً للنّكاح. فقال له معاوية: يابن الوزغ! لست هناك. فقال له مروان: هو ذاك وإنّي الآن والله لأبو عشرة وأخو عشرة وعمّ عشرة وقد كاد ولدي أن يكملوا العدّة؛ يعني أربعين، ولو قد بلغوها علم أين تقع منّي، فانخزل معاوية ثمّ قال:

فإن أك في شراركم قليلاً ... فإنّي في خياركم كثير

بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأُمّ الصقر مقلاة نزور

فلمّا فرغ مروان من كلامه خضع معاوية وقال له: لك العتبى وإنّي رادّك إلى عملك، فوثب مروان وقال: لا وعيشك لا رأيتني عائداً إليه أبداً، وخرج. فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت قطّ لك سقطة مثلها، ما هذا الخضوع لمروان؟ وأيّ شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وأيّ شيء حسبنا نخشاه منهم؟ فقال له: أُدن منّي أخبرك بذلك، فدنا منه، فقال له: إنّ الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أُختي أُمّ حبيبة لمّا زفّت للنبي، وهو مولىً نقلها إليه، فجعل رسول الله عليه السلام يحدّ النظر إليه، فلمّا خرج قيل له: يا رسول الله حدّدت النظر إليه؟ فقال: ابن المخزوميّة، ذاك رجل إذا بلغ ولده ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر بعدي، فوالله لقد تلقّاها من عين صافية. فقال الأحنف: لا يسمعنّ هذا منك أحد فإنّك تضع من قدرك وقدر ولدك بعدك، وإن قضى الله عزّوعلا أمراًيكون. فقال معاوية: فاكتمها عَلَيّ ياأبا عمرو إذاًفقد لعمري صدقت ونصحت.

ومن جيّد التلميح قول أبي تمام الطائي:

إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها ... وزادت على ما وطّدت من مناقب

فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

<<  <   >  >>