قال الصولي: كنا عند المبرد، فجاءه رجل فسلم عليه واستجفى نفسه في لقائه، فأنشد المبرد:
ان الزمان وإن شطت مشاهده ... مني ومنك فأن القلب مقترب
لن ينقص النأي ودي ما حييت لكم ... ولا يميل به جد ولا لعب
ذكر المعتصم عند المبرد، فقال: هو كما قال الاخطل:
تسمو العيون إلى امام عادل ... معطى المهابة نافع ضرار
وترى عليه إذا العيون رمقنه ... سمة الحليم وهيبة الجبار
اشترى المبرد نبقاً وجعله بين يديه مخافة ان يبعث به الى النساء فيؤكل، ابنه فجلس الى جنبه كأنه يسمع ما يمر في المجلس وجعل يتناول من النبق ويلقيه الى فيه، فألتفت ابو العباس فرآه فأنشد:
الناس في غفلاتهم ... ورحى المنية تطحن
فخجل ابنه فقام ودخل وانشد يرد قول سعيد بن جميد في صديق له يستنجزه وعدا:
سبقت الى عدة بالنوال ... جعلت الوفاء بها لي ضمينا
فلا تعذرن فإن الحلال ... يجلك عن خلق الغادرينا
تعلمت بعدي طول المطال ... وعلمتني ذلة الصابرينا
فما اسمج الغدر بعد الوفاء ... وما اقبح البخل بالقادرينا
وقال: دخلت يوماً الى موضع المجانين فمررت برجل تلوح صلعته وتبرق جبهته وهو جالس على حصير نظيف وهو متوجه الى القبلة كأنه يصلي، فجاوزته إلى غيره، فناداني: سبحان الله! اين السلام؟ من المجنون، انا ام انت؟! فأستحييت منه فقلت: السلام عليكم! فقال: لو كنت ابتدأت لاوجبت علينا حسن الرد عليك على انا نصرف سوء ادبك الى احسن الجهاتمن العذر لانه يقال: إن للداخل على القوم دهشة. اجلس، اعزك الله عندنا! وأومى إلى حصير وجعل ينفضه كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فناداني ابن ابي حميضة القيم: عليهم إياك إياك! فأحجمت في ذلك ووقفت ناحية أستجلب مخاطبته، فقال لي وقد رأى معي محبرة: يا هذا، ارى معك آلة رجلين ارجو ان لا تكون احدهما، أتجالس اصحاب الحديث الاغثاثاام الادباء اهل النحو والشعر؟ قلت: الادباء! قال: اتعرف ابا عثمان المازني؟ قلت نعم. قال: أفتعرف الذي يقول فيه:
وفتى من مازن ساد اهل البصرة ... أمه معرفة وابوه نكرة
قلت: لا قال: افتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر له ذهن وحفظ يعرف بالمبرد؟ قلت: انا والله عين الخبير له! قال: فهل انشدك شيئاً من مخبثات اشعاره؟ قلت: لا احسبه يحسن قول الشعر. قال: سبحان الله، اليس هو الذي يقول:
حبذا ماء العناقيد بريق الغانيات ... بهما ينبت لحمي ودمي أي انبات
ايها الطالب اشهى من لذيذ الشهواتكل بماء المزن تفاح خدود الناعمات
قلت: قد سمعته ينشد هزله مجلس انس. قال: سبحان الله، اوستحي ان ينشد مثل هذا حول الكعبة؟! أما سمعت ما يقول الناس في نسبه؟! قلت يقولون هو من ازد شنوة ثم من ثمالة. قال: قاتله الله، ما ابعد غوره، اتعرف من قال:
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثمالة
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهالة
فقال لي المبرد: خل قومي ... فقومي معشر فيهم نذالة
قلت: اعرف هذه الابيات لعبد الصمد بن المعذل. قال: كذب من ادعاها غير المبرد، هذا كلام رجل لا نسب له! يريد ان يثبت بهذا الشعر له نسباً. قلت: انت اعلم! قال: يا هذا، قد غلبت بخفة روحك على قلبي وتمكنت بفصاحتك من استحساني، وقد ارت ما كان يجب ان اقدمه، ما الكنية؟ اصلحك الله! قلت: ابو العباس. قال: فما الاسم؟ قلت: محمد. قال: فألاب؟ قلت: يزيد. قال: قبحك الله، احوجتني الى الاعتذار اليك مما قدمت ذكره! ثم وثب باسطاً يديه لمصافحتي، فرأيت القيد في رجله قد شد إلى خشبة في الارض؟، فأمنت عند ذلك غائلته، فقال لي: يا ابا العباس، صن نفسك عن الدخول الى هذه المواضع! فقبلت قوله ولم اعاود الدخول الى مخيس. وقال بعض اصحاب ثعلب:
اسم المبرد من معناه مسترق ... حقا كما اقتد داجي الليل من نسبه
وقلما ابصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فتشت في لقبه