قال أبو عمرو: أصيب حجر مزبور بقنسرين بالعبرانية، فترجم فإذا فيه " من الوافر ":
إذا جار الأمير وصاحباه ... وقاضي الأمريدهن في القضاء
فويل ثم ويلُ ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
قال: وأصيب حجر مزبور بالطالقان، فترجم فإذا فيه " من البسيط ":
اليأس عما بأيدي الناس نافلة ... والمال يعجز والأخلاق تتسع
لاتجزعن على ما فات مطلبه ... هب قد جظعت فماذا ينفع الجزع
قال: وأصيب على باب مدينة من مدائن سليمان بن داود عليهما السلام حجر مزبور فإذا فيه " من الهزج ":
لاتصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ماهو ماشاه
وللشيء من الشيء ... علامات وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
قال: ووجد في زمن سليمان بن عبد الملك بدمشق حجر مكتوب فيه بالأعجمية، فترجم فإذا فيه: ياابن آدم، لو رأيت يسير مابقي من أجلك، لزهدت في طويل ماترجو من أملك، ولقصر بك عن حرصك وحيلك، وإنما تلقى ندمك، لو زلت بك قدمك، وفارقك أهلك وحشمك، وانصرف عنك القريب، وودعك الحبيب، فلا أنت في عملك زائد، ولا إلى أهلك عائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة! وقال: لقيت أعرابياً فقلت: من أين أنت؟ قال: من عمان. فقلت: صف لي أرضك! فقال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صلدح، ورجل أصبح. فقلت: فمالك؟ قال: النخل. قلت: فأين أنت عن الأبل؟ قال: إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء، وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء، وقرؤها إناء. - وقال رجل لأبي عمرو لم سميت الخيل خيلا وإنما هي الدواب؟ فلم يكن عنده جواب. فقال أعرابي حضرهم: سميت خيلاً لاختيالها.
أبو عمرو عن أبيه عن أبن عباس أنه قال: إن لكل داخل دهشة فالقوه بالتحية. - وقال أبو عمرو: جنان الدنيا ثلاثة: نهر الأبلة وغوطة دمشق وسغد سمرقند؛ وحشوش الدنيا ثلاثة: هيت وأردبيل وعمان.
قال محمد بن سلام: ذاكرت معاوية بن أبي عمرو ببيت جرير: من الوافر ":
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقلت: أين هو من بيت الأخطل " من البسيط ":
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فقال: بيت جرير أسهل وأيسر، وبيت الأخطل أجود وأحكم. - قال الصولي: بيت الأخطل عند من يفهم الشعر وينقده أحسن وأجود قسمة لأن قوله " شمس العداوة حتى يستقاد لهم " قسمة حسنة قائمة بنفسها، ثم قال " وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا " فقابل ورتب وقسَّم؛ وبيت جرير: " الستم خير من ركب المطايا " هو إلى ههنا كالكلام الفارغ، وإنما يستحسن " بطون راح ".
ولد أبو عمرو في أول خلافة عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعب بن الزبير. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة. وكان يقول في مرضه الذي مات فيه: اللهم إن أنزلت بلاءً فأنزل صبرا، وإن وهبت عافية فهب شكرا! - وشخص أبو عمرو من البصرة يريد بيت المقدس، فمات بالكوفة.
ودخل يونس بن حبيب على أولاد أبي عمرو معزياً لهم، فقال " من الوافر ":
نعزيكم وأنفسنا بمن لا ... نرى شبها له أخرى الزمان
والله لو قسم علم أبي عمرو رحمه الله وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهاداً، والله لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره ماهو عليه. فأجابه معاوية بن أبي عمرو - فإنه كان يلزم مجلسه ويأخذ عنه كثيراً - فقال مرتجلاً " من الرجز ":
أنت أبونا بعده وعمنا ... وأنت بعد الله مرجو لنا
قد كان قبل الموت وصاك بنا ... فأقض بإقبال علينا حقنا
فليس نشكو ما بقيت فقدنا ... عشت لنا كهفاً وعشت بعدنا
ولزموا مجلس يونس فما منهم إلا عالم. - وقال معاوية بن أبي عمرو: سألت بلال بن جرير عن لكع، فقال: هو الجحش الصغير في لغتنا، وإلى هذا كان يذهب الحسن البصري.
وقعد الناس يبكون على أبي عمرو عند موته، فقال: لاتبكوا عليَّ، أنا مامت لكني قد فنيت! وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت كما قال الربيع بن ضبع الفزاري " من المنسرح ":