وقال أبو عمرو في قول جميل " من الطويل ":
رمى الله في عيني بثينة بالقذي ... وفي الغر من انيابها بالقوادح
قال: عيناها رقباؤها، وأنيابها ساداتها لاأسنانها التي في فيها، والقوادح الحجارة.
وقال أبو عمرو: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه في سنة عشر ومائة، وقدم جرير من اليمامة، فاجتمع إليه الناس، فما أنشدهم، ولاوجدوه كما عهدوه، فقلت له في ذلك، فقال: أطفأ موت الفرزدق والله جمرتي وأسال عبرتي وقرب مني منيتي. ثم شخص إلى اليمامة، فنعي لنا في شهر رمضان من تلك السنة.
وسأل أبو عمرو رؤبة: مالسانح؟ قال: ماولاك ميامنه. قال: مالبارح؟ قال: مولاك مياسره، والذي يأتيك من أمامك النطيح، والذي يأتيك من خافك القعيد.
وقال أبو عمرو: خرجت مع جرير إلى الشام نريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا من بساطه طرب جرير، فقال: ياأبا عمرو، أنشدني للمليحي! - يعني كثيرا - فأنشدته " من الطويل ":
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
توليت عني حين مالي حيلة ... وخليت ما خليت بين الجوانح
فقال جرير: والله، لولا أني شيخ يقبح بمثلي النخير لنخرت نخرة يسمعها الإمام على سريره! وأتى أبو عمرو ذا الرمة فقال: أنشدني قصيدتك " من البسيط ":
مابال عينك منها الماء ينسكب
فأنشده إياها إلى قوله " من البسيط ":
تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا مااستوى في غرزها تثب
قال له أبو عمرو: قول عمك الراعي أحسن مما قلت وأثبت، وهي " من المتقارب ":
تراها إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
ولا تعجل المرء قبل البرو ... ك وهي بركبته أبصر
فقال ذو الرمة: الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة. - قال الصولي: يروى أن أعرابياً سمع ذا الرمة ينشد بيته هذا، فقال: سقط والله الرجل. - وما أحسن ماأخذ هذا الإصغاء أبو نواس، فقال يصف الناقة في مدحه الخصيب بن عبد الحميد " من السريع ":
وكأنها مصغ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر
وقال أبو عمرو: قال رؤبة: ما سمعت بأفخر من قول امرئ القيس " من الطويل ":
فلو أ، ماأسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ولاأنذل ولاأبعد من قوله " من الوافر ":
لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها عصي
فتملا بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غني شبع وري
ومن شعر أبي عمرو " من البسيط ":
هبت تلوم وما أحدثت من حدث ... إلا ولوعا تلافاه بتأنيب
أن تحمليني على مالست راكبه ... فقد أردتن كيداً بابن يعقوب
وقال أبو عمرو: ماكذبت في شيء قط غير أني زدت في شعر الأعشى " من البسيط ":
واستنكرتني وما الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعل
وقال أبو عبيدة: قرأت شعر الأعشى على بشار، فقال: هذا البيت كأنه ليس من نفس الأعشى، ولايورد خاطره مثله لأنه أنكر إنكارها ما لا يحب أن ينكر مثله من قولها. فلما قال أبو عمرو هذا علمت أن بشارا أعلم بالشعر وأشد تمييزاً لألفاظه ومعانيه.
ومما يروى لأبي عمرو " من الطويل ":
ترى المرء يبكيه الذي عاش بعده ... وموت الذي يبكي عليه قريب
يحب الفتى المال الكثير وإنما ... لنفس الفتى مما يحب نصيب
وأنكر أبو عمرو الوقوف على هاء (ماأغنى عني ماليه) .
فقيل له: هي من لغة قربش، أما رأيت قول ابن قيس الرقيات " من الكامل ":
إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعتني وقرعن مروتيه
وجببتني جب السنام فلم ... يتركن ريشاً في مناكبيه
قال الأصمعي: يلحن ابن قيس الرقيات في بيت منها في الندبة حين قال " من الكامل ":
تبكيهم أسماء معولة ... وتقول ليلي: وارزيتيه
كان ينبغي أن يقول: وارزيتاه! كما تقول: واعماه! واأخاه! وكان أبو عمرو إذا استراب من شئ تمثل بهذين البيتين " من الوافر ":
كما قال الحمار ليهم رامٍ ... به عقب البعير وريش نسر
حديدة صقيل في عود نبع ... لقد جمعت من شتى الأمر